بقلم: أحمد رشدي
سورة الكهف ليست مجرد قصصٍ تُروى، بل هي مدرسة في فهم حكمة القدر، وميدان واسع لتأمل لُطف الله الخفي في حياة عباده. من بين مشاهدها البديعة، تتجلّى ثلاث مواقف بين نبيّ الله موسى عليه السلام والخضر، تحمل في طيّاتها رسائل عميقة عن أن ما نراه شراً قد يكون عين الخير، وما نعدّه خسارة قد تكون نجاة ورحمة.
… خرق السفينة…
قال الله تعالى:
“أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا، وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا.”
(سورة الكهف – الآية 79)
في ظاهر الأمر، كان خرق السفينة فعلاً غريباً بل مؤذياً، لكن في باطنه رحمة خفية أنقذت المساكين من بطش ملكٍ جائر.
إنها رسالة تقول: أحياناً يُحدث الله في حياتك “شقّاً” ظاهرياً، ليحفظك من غرقٍ أكبر لا تراه أنت بعينك.
… قتل الغلام…
قال تعالى:
“وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا.”
(سورة الكهف – الآية 80–81)
مشهد يثير الدهشة: غلام بريء يُقتل! لكن خلف هذا الحدث المؤلم رحمة ربانية، إذ علِم الله أن بقاءه سيكون شقاءً لوالديه الصالحين، فأبدلهما خيراً منه.
ما يبدو فاجعة اليوم قد يكون نجاة غداً، وما يُذهب الدموع قد يجلب الطمأنينة بعد حين.
… الجدار…
قال تعالى:
“وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا…”
(سورة الكهف – الآية 82)
في هذا الموقف أقام الخضر جداراً في قرية بخل أهلها، دون أن يأخذ منهم أجراً، لأن وراء الجدار كنزاً ليتيـمين أراد الله أن يحفظه لهما حتى يبلغا أشدهما.
إنها لمسة من لطف الله تمتد إلى ذرية الصالحين، فصلاح الأب يورّث حفظاً وكرامة لأبنائه من بعده.
…اللطف الخفي…
في هذه المواقف الثلاثة تتجلى سُنّة اللطف الإلهي:
قد يُخفي الله الخير في ثوب الألم، ويغلف رحمته بستار الابتلاء، حتى لا يراها إلا من أشرقت بصيرته بالإيمان.
فلا تستعجل الحكم على ما يجري لك، فربّ مؤلمٍ وراءه نعمة، وربّ خسرانٍ فيه نجاة.
قال تعالى:
“وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.”
(سورة البقرة – الآية 216)
إنّ اللطف الإلهي لا يُرى بالعين، بل يُدرك بالقلب ولابد من الثقة الكاملة في إختيارات الله وعلمه المطلق.
..أري حيرة أصحاب السفينة وهم يحاولون فهم سبب تخريب السفينة ممن سمحوا لهم بالركوب معهم ،
واسمع دعاء أم الصبى في القصة الثانية وهي تدعو علي من قتل ولدها الأول دون سبب ،
أما أصحاب الجدار فأتعجب من عدم معرفتهم بلطف الله بهم وبمن أرسلهم ليحفظوا لهم كنزهم المدفون.
فالله لطيف بعباده، يدبّر أمورهم بحكمة، ويرسم دروبهم برحمة، وإن غابت الأسباب أو تأخّر الفرج.
المصادر
القرآن الكريم
تفسير الطبري
تفسير القرطبي
تفسير ابن كثير
