بقلم: مريم أحمد
يُعدّ الاتجاه الوجداني من أهم الاتجاهات الشعرية التي ظهرت في العصر الحديث، إذ قام على الكشف عن أسرار النفس الإنسانية، والتعبير عمّا يسودها من مشاعر وأحاسيس ذاتية، فالتجربة عند شعرائه كانت شخصية صادقة تنبع من أعماق الوجدان. كما اعتبروا أن الشعر تجربة إنسانية عامة تعبّر عن الذات والكون والحياة في صدقٍ فنيٍّ وإحساسٍ مرهف، معتمدين على الخيال والعاطفة والتأمل في الطبيعة، واتجهوا نحو الحزن والتشاؤم والتغني بالجمال والحب والمساواة بين لذة الحب وألمه.
بدأ الاتجاه الوجداني مع الشاعر خليل مطران، الذي ربط الشعر العربي بالوجدان الإنساني وأضفى عليه لمسات ذاتية صادقة. ثم نما هذا الاتجاه على يد جماعة أبولو في الثلاثينيات، ونضج بفضل رواد مدرسة الديوان ومدرسة المهاجر، إلى أن تراجع بعد الحرب العالمية الثانية أمام تيار الواقعية. وقد حاكى هذا الاتجاه المدرسة الرومانسية الغربية، متأثرًا بها في رؤيتها للشاعر والكون والطبيعة.
قام التجديد في هذا الاتجاه على ردّ الشعر العربي لما فقده من حرارة العاطفة وصدق الإحساس، وحرص الشعراء الوجدانيون على الخروج من القوالب القديمة المكررة مثل المديح والرثاء، فابتكروا صيغة شعرية جديدة تقوم على صدق التعبير عن الذات، واكتساب الألفاظ دلالات إيحائية جديدة، وبناء الصورة الفنية على أسس حديثة مستفيدة من النظريات في الأدب والفن والموسيقى، وانطلاق الصورة الفنية من الوجدان.
أما الصورة الشعرية عندهم فقد قامت على مفهومٍ فنيٍّ حديثٍ يجمع بين العاطفة والفكر، وتنطلق من أعماق النفس لتعبّر عن التجربة الصادقة.
كان خليل مطران رائد التجديد في الشعر العربي، إذ أسهم في تطوير القصيدة العربية وردّ إليها روحها الوجدانية بعد أن كانت جامدة تقليدية. استطاع أن ينقل الشعر من الكلاسيكية القديمة إلى الحداثة، وكان له أثر واضح في تمهيد الطريق أمام الاتجاه الرومانسي. وقد أعلن مذهبه الشعري في مقدمة الجزء الأول من ديوانه سنة 1908م.
امتاز شعر مطران بعدة سمات، منها أنه عصري يعيش زمانه، غير مقلد لما سبقه، لا يخضع لتقاليد الشعر القديم، ولا تحمله ضرورات الوزن والقافية على غير قصده، فالمعنى عنده هو الأساس، واللفظ خادمٌ للمعنى. كان ينظر إلى جمال القصيدة ككل لا إلى جمال البيت المفرد، مؤمنًا بفكرة الوحدة العضوية، أي أن القصيدة تدور حول فكرة واحدة وشعور واحد في انسجام فني بين الأبيات والمعاني والصور. وفي أسلوبه نلحظ التناسق والترتيب ودقة الوصف، فهو يأتي بالصورة على قدر الحاجة دون مبالغة كما كان يفعل شوقي، مع قوة الألفاظ وسلامة الأسلوب والمحافظة على الوزن والقافية.
تميّز شعر جيل البعث والاتجاه الكلاسيكي الجديد بوضوح الجانب الفكري والوجداني، والنزعة التأملية، والاهتمام بالنفس والوجدان، مع ميلٍ إلى التجديد في الموضوعات بطريقة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. كما اتسم شعرهم بوحدةٍ عضويةٍ وموسيقى متعددة النغمات دون التزامٍ تامّ بنظام القصيدة القديمة.
اتسمت المدرسة الرومانسية بعدة خصائص منها اختيار عناوين تعبّر عن مضمون القصيدة، الميل إلى الطبيعة ومناجاتها، البعد عن شعر المناسبات، الصدق في التجربة الذاتية، التعبير عن القلق والحيرة والنزوع إلى الطبيعة، والاستسلام للأحزان والميل إلى التشاؤم.
يُعدّ مطران مرحلة انتقالية بين المدرسة الكلاسيكية الجديدة والمدرسة الرومانسية، إذ جمع بين المحافظة على الشكل التقليدي للقصيدة من حيث الوزن والقافية، وبين التجديد في المضمون والتعبير. فقد وضع عنوانًا معبّرًا عن مضمون القصيدة، وعبّر عن تجربة ذاتية صادقة، ومزج بين الطبيعة والنزعة التأملية، واستخدم ألفاظًا موحية بعيدة عن الغرابة. وفي الوقت نفسه، حافظ على قوة الألفاظ وسلامة الأسلوب، مما جعله همزة وصل بين القديم والحديث.
اختلف مطران عن القدماء في نظرته إلى القصيدة؛ فبينما كان القدماء يرون كل بيت وحدةً مستقلةً، آمن مطران بأن القصيدة بناءٌ فنيٌّ متكامل يقوم على الوحدة العضوية، أي أن جميع أبياتها تدور حول فكرة واحدة وشعور واحد في انسجام تام.
