قصة قصيرة
بقلم د.نادي شلقامي
في ريفٍ يغتسل بضوء الشمس الذهبي، حيث تتشابك حقول القمح بالبيوت الطينية المتواضعة، نشأت حكايتهما. زينب، ابنة الريف الأصيلة، التي ارتسمت ملامحها بالسكينة، وعينيها تعكسان إيمان أبيها وتقواه. وحازم، وريث قصر الباشا الشامخ، الذي لم تُفسد ثروة عائلته نقاء روحه، بل كان يحمل في قلبه براءة الأطفال وشغف العلماء.
جمعهما مقعد الدراسة، من الابتدائي إلى الإعدادي، كانا نجمين متلألئين في سماء التفوق. لم يكن فارق القصر والمزرعة ليُحدث فجوة بين طفولتهما النقية. كان حازم يرى في زينب الذكاء الذي يسكن روحًا هادئة، وكانت هي ترى فيه النبل الذي يتجاوز حدود المال.
عند مفترق الطرق بعد الإعدادية، بدأ القدر يكشف عن تحدياته. حازم إلى الثانوية العامة ومنها إلى حلم الطب بمساندة غير محدودة. أما زينب، فقد كتمت تنهيدة الحلم وقالت لأبيها: “دبلوم يا أبي، يكفي، الظروف لا تحتمل المزيد من المصاريف”. كان قرار تضحية نابعًا من قلب محب لا يطيق أن يرى العبء على كاهل أبيه العصامي.
مرت السنوات كالنسيم، حازم يغوص في دهاليز الكتب الطبية، وزينب ترتشف من معين العمل والدبلوم لتخفف عن أسرتها. إلى أن جاء ليلة عُرس أحد أصدقاء حازم في القرية.
في تلك الليلة، لم يرَ حازم سوى زينب. لم تكن مجرد فتاة جميلة، بل كانت ملكة جمال القرية برمتها، بجمال أصيل لم تُزينه رفاهية، بل زادته بساطة الريف بهاءً. عيناها القديمتان تحملان نظرة عميقة من المعرفة المكبوتة. تقابلت النظرات، واشتعلت شرارة لم تنطفئ منذ الطفولة.
سنتان من الحب الصامت، تبادل الرسائل العفوية واللقاءات الخاطفة تحت سماء القرية. كان حازم يراها كفاحه، ومصدر إلهامه. كانت زينب ترى فيه القدر النبيل الذي لم يغيره المال. قرر حازم قرارًا مصيريًا: الزواج من زينب.
لكن جدار القصور كان أقسى من جدار بيتها الطيني. عندما وصل الخبر إلى عائلة الباشا، كان الرفض قاطعًا، مهينًا، ومُجحفًا. “ابن الباشا لا يتزوج من ابنة…”. الكلمات لم تُقال كاملة، لكن معناها وصل مدويًا.
وصل الرفض إلى زينب كالطعنة الباردة. لم تبكِ على حبيبها فقط، بل بكت على ظُلم الظروف وقسوة المجتمع. هنا، قررت زينب أن تُعيد كتابة مصيرها بيدها.
تلك اللحظة كانت نقطة التحول. لم تعد زينب الفتاة المضحية بالدبلوم. أصرت على أبيها، الذي رأى في عيني ابنته نارًا لم يطفئها الحزن: “أريد الثانوية، أريد الطب يا أبي.”
التحقت بالثانوية العامة مرة أخرى، بذاكرة متقدة ورغبة لا تُقهر. الدرجات العالية، الجهد المضاعف، والتفوق المذهل. ثم كلية الطب.
وفي الكلية، لم تكتفِ بالنجاح، بل تفردت بالتفوق. كل كتاب وكل امتحان كان سُلّمًا تصعد به لتُجيب على كل من قال “لا” لحبها وذكائها. بينما كان حازم، الطبيب في مستشفى حكومي، يمارس مهنته بكفاءة، كانت هي تغوص في مجال الأشعة التشخيصية، مجال يتطلب دقة وذكاءً حادًا، وتتخصص وتتألق.
لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت الدكتورة زينب، ثم الأستاذة الجامعية الدكتورة زينب، بمركزها العلمي الرفيع وكفاءتها التي لا يختلف عليها اثنان. قُصر عائلة حازم، وكل الفوارق التي رفضوها، تلاشت أمام نور علمها ونجاحها.
مرت السنوات العشر، وكأنها عمر طويل. حازم لم يتزوج، بقي جُرح زينب غائرًا في روحه، يرفض أي امرأة أخرى لم تكن بذات وهجها. زينب انغمست في عملها، لكن قلبها لم ينسَ الحب الأول الذي دفعها لتكون ما هي عليه.
في صباح يوم روتيني، كان الطبيب حازم يرسل أحد مرضاه لمركز أشعة متخصص ليُجري فحصًا دقيقًا. كانت ملاحظة المريض واضحة: “المركز تديره أستاذة في الأشعة، لا يقبلون إلا الأكثر كفاءة”.
دخل حازم إلى المركز ليتأكد من الملف. سأل موظفة الاستقبال: “هل يمكنني لقاء مديرة المركز؟ الطبيب المُحَوِّل للمريض…”.
“لحظة يا دكتور، سأُبلغ الأستاذة الدكتورة زينب.”
ارتجف قلب حازم عند سماع الاسم. زينب؟ هل يمكن أن تكون هي؟ تذكر صوت الرفض القاسي، ورأى صورة الفتاة التي تنازلت ثم عادت وقهرت كل الظروف.
بعد لحظات، فُتح الباب الزجاجي. خرجت زينب، لا بملابس الدبلوم البسيطة، بل بوقار أستاذة جامعية، معطفها الأبيض يلف قامة شامخة، وعيناها تحملان عُمق تجربة وحكمة سنوات.
توقفت الكلمات على شفاه حازم. كانت أجمل وأكثر بهاءً مما تذكر. لكن هذه المرة، كانت تقف على أرض صلبة من نجاحها الخاص.
“أهلاً دكتور… حازم.” قالتها بهدوء مهني، لكن صوتها حمل رنينًا قديمًا لم ينساه.
لم يستطع حازم أن ينطق بجملة طبية واحدة. قال بصوت خافت، يكاد يكون اعترافًا: “زينب… لم أتصور…”
نظرت إليه زينب بنظرة حانية، خالية من العتاب القديم، مليئة بالاحترام: “الأقدار تتقابل في دهاليز الأشعة يا دكتور حازم. تفضل، لنتحدث في حالة المريض أولاً. ثم… ربما نجد وقتًا لقصة لم تُكتمل.”
كانت تلك الجملة هي الأشعة التي كشفت عن محتوى قلبهما المخبأ. لم يعد هو ابن الباشا ولا هي ابنة الرجل متوسط الحال. كانا طبيبين ناجحين، متساويين في المكانة، متحدين في الرغبة القديمة. لقد عاد الحب، لكن هذه المرة، كان حبًا شامخًا، مبنيًا على الاحترام المتبادل والنجاح الذي حققته زينب بإرادتها.
بعد لقائهما، لم يعد هناك جدران اجتماعية تقف بينهما. عائلة حازم التي رفضتها يومًا ما، أصبحت تتحدث عن الأستاذة الدكتورة زينب بكثير من الفخر. لم يكن زواجهما تتويجًا لحب، بل تتويجًا لرحلة كفاح عظيمة.
تزوجت زينب وحازم، وعادا إلى الريف ليُقيموا فيه مستشفى خيريًا، لتكون قصتهما رسالة لكل شاب وفتاة:
” إن الحب الحقيقي” لا يكتمل بالغنى أو النسب، بل يكتمل بصدق النوايا، وقوة الإرادة، والنجاح الذي يُحققه الإنسان لنفسه. لم تكن زينب تحتاج حازم لترتفع، بل هي ارتفعت لتستحقه على قدم المساواة، لتثبت أن قيمة الإنسان ليست فيما يملك، بل فيما يُقدمه ويُحققه.
