بقلم: ياسمين إبراهيم
كانت طفلةً صغيرة تحمل في قلبها حلمًا أكبر من عمرها.
لم تكن تحفظ الدروس، ولم تكن تلتصق بالكتب ساعاتٍ طويلة لكنها كانت تمتلك شيئًا أثمن…كانت تمتلك قلبًا صغيرًا
يحلم بأن تصعد فوق العالم، ولو على سلّمٍ مصنوعٍ من الأمنيات..
وحين جاءت نتيجة الإعدادية، وقع الخبر على قلبها كما يقع الحجر على الماء…يفتح دائرةً من وجعٍ لا ينتهي.
رفعت وجهها نحو أمها، وعيناها تلمعان كزجاجٍ مكسور:
“هل سأدخل الثانوية العامة ؟”
فاحتضنتها الأم وقالت بصوتٍ يحاول أن يجبر خاطرها:
“سيمنحكِ الله ما تتمنّين… ربما يكون هذا العام مختلفًا.”
ضحكت الفتاةُ بدمعةٍ تتدلّى من طرف الحلم:
“وأدرس الفنون الجميلة… وأصبح مهندسةً تُنصت لها المدن.”
لكن المدن لا تنصت للضعفاء.
والتنسيق جاء كريحٍ قاسية
تُسقط أوراق الشجر قبل أوانها.
قال الأب بصوتٍ يحاول أن يخبّئ انكساره:
“ستدخلين التعليم الصناعي… هذا ما كُتب.”
فدخلت، ومشت في ممرٍّ ليس لها، وتعلّقت بقسم الزخرفة
كما يتعلّق الطائرُ بغصنٍ مكسور، عسى أن يصير الغصنُ يومًا جناحًا.
ثم… ظهر الوهم.
ظهر كسرابٍ يشبه الحقيقة، مدرسةٌ خرجت من العدم، لا جذور لها، ولا ظلّ، غير أنها وعدت بالسماء.
رأتها الفتاة فهرولت نحوها.
قالت بلهفةٍ تحرق أطراف الكلام:
“خذوني إليها… إنها نافذتي الأخيرة.”
قالوا: “إنها مركزٌ صغير… لا أكثر.”
فهمست بثقةٍ يصنعها العمى:
“بل هي فرعٌ من مدرسةٍ عظيمة… رأيت الطلاب، رأيت الضوء، رأيت غدًا كاملًا.”
ودخلت و ليتها لم تفعل.
صارت طالبةً في الثانوية العامه كما أرادت.. كبرت، وتحوّل صوتُها إلى رنينٍ يعرفه الأساتذة، وصارت أسماؤهم تُكتب بجانب اسمها حين يتحدّثون عن الاجتهاد.
حتى جاء ذلك الصباح…الذي ذُبح فيه كل شيء..
مبنى مغلق، نوافذ لا تعرف الهواء، وجدرانٌ خلتْ من أصوات الطباشير.. كأن المدرسة لم تكن يومًا…كأنها كُتبت على الماء.
تسأل الوجوه:
“أين المدير؟ أين المدرسون؟ أين مَن كانوا يعدوننا بالفجر؟”
ولا يأتيك إلا صدى:
“أُغلِق المكان… لأمرٍ عابر.” لكن العابر كان أبديًا.. والصمت كان أصدق من كل الأكاذيب.
ارتجفت الفتاة، والخوف يتدلّى من عينيها.. قبضت على هاتفها
كأنها تقبض على آخر خيط في الحياة.
وضغطت الرقم… تتوسل الحقيقة.
جاءها الصوت…قاسيًا، واضحًا، لا يعرف المجاملة:
“ثانوي؟ نحن لا نقبل طلابًا في هذه المرحلة منذ أربعة أعوام.”
ارتطم الكون بداخلها.
تكسّر الحلم…
وتكسّر الصوت…
وذاب الجسد في بكاءٍ يشبه الهزيمة.
“كيف؟! ماذا كنتُ إذًا؟”
وجاء الردُّ كنصلٍ مستقيم:
“كنتِ في مدرسةٍ وهمية.” وانهار العمر كله في تلك الجملة..
وانكسر قلب الأب حين سمعها تقول:
“كنتُ على بُعد شهرٍ من الجامعة… وها أنا أُرمى إلى الإعدادية.”
وانطفأت الأم حين قالت:
“رجعوني طفلة… وأنا التي حملت على كتفي ثلاث سنين من الكفاح.”
ارتفع الغضب…تجمعت الأصوات كبحرٍ يتقدم دون إذن:
“يا وزير… قل الحق! نحن طلابٌ أو لا ؟”
وسُمِعت الصرخة وللمرة الأولى انفتح بابٌ صغيرٌ في جدارٍ كبير.
قيل لهم:
“لكم الحق… لكن نحتاج امتحانًا يثبت أنكم كنتم طلابًا بحق.”
دخلوا الامتحان…
وكان لهم من الأمتحانات ألوان ، لكن المظلوم يحمل داخله قوةً لا يملكها الظالم.
فنجحوا وسُجّلوا رسميًا وعادت الفتاة طالبةً…
لكن هذه المرة، كانت تمشي على أرضٍ صلبة لا على سراب.
وأكملت الطريق وتقدّم اسمها في قوائم الناجحين،
حتى جاء يومٌ قالت لها الأيام:
“تفضّلي… ها هي الهندسة التي حلمتِ بها.”
وعادت، كما أراد قلبها منذ البداية…
عروسًا للحلم،
وسيدةً على طريقها،
وأكبر من كل أكاذيب الأرض.
