بقلم : أحمد المسلماني
رأيته عند الغروب، جالسًا في الركن القصيّ من مقهى قديم يتشبث بما تبقّى له من ظل في وسط التوفيقية. كان العجوز يشدّ على الشيشة شدّ العارف بنهايات الأشياء، ينفث دخانًا لا يعلو كثيرًا، كأنه أنفاس زمن مرَّ ولم يبقَ منه إلا رائحته. وقد بدت عيناه، تحت جفنين أرهقهما الزمن، كنافذتين على عالم آخر لا نراه.
كان ينظر إلى الشارع الطويل الممتد أمامه، النظرة ذاتها التي يُلقيها من فقد أصدقاءه واحدًا تلو الآخر، حتى صار وحده شاهدًا على زمنٍ انقضى. شعرتُ أن كل سحبة يأخذها من الشيشة ليست إلا محاولة لاستدعاء ماضٍ بعيد… ماضٍ كانت فيه التوفيقية لا تتعدّى عشرة بيوتٍ صامتة، تقف على استحياء أمام الشمس، وتستيقظ مع الفجر على وقع خطى قليلة تعرف بعضها بالاسم والهيئة والسرّ.
كانت الحياةكما تحكيه قسمات العجوزبطئية، تمشي على مهل كأنها تخشى أن تُوقظ أحدًا. يومها لم يكن في القرية هذا الزحام ولا هذا الركض الذي لا يعرف إلى أين. كانت الشوارع قصيرة، والأيام طويلة، والناس وجوهًا محدودة تتكرر دون ملل. روتين بسيط يلتف حول الجميع كعباءة واحدة: خروجٌ إلى الحقول، لقاءٌ عند الساقية، وغروبٌ يعود فيه كل شيء إلى سكَنٍ يشبه الدعاء.
أحسستُ أنه يتساءل، بصمتٍ مرّ:
كيف نمت القرية بهذه السرعة؟
كيف امتلأت بالوجوه والعائلات والضجيج؟
كيف تغيّر كل شيء إلا هو؟
كان يتأمل المارة كما يتأمل المرء صورًا قديمة باهتة، يبحث في الوجوه عن أثرٍ لأولئك الذين شاركوه البدايات. لكنهم تلاشى أغلبهم: منهم من نقلته المدن، ومنهم من خبأه التراب، ومنهم من صار ذكرى لا تمرّ إلا عابرة في اللحظة بين سحبتين من الشيشة.
مرَّ أمامه طفل يحمل قطعة خبز، يمشي بخفةٍ لا تعرف أثقال الدنيا. رأيتُ العجوز يتبعه بعينيه طويلاً، كأن هذا الطفل خيط يصل بين زمنين. خُيِّل إليّ أنه يقول في سره:
“هذا الصغير سيجلس مكاني بعد ستين عامًا، وسيستنشق دخان شيشةٍ أخرى، وسينظر إلى التوفيقية ذاتها، لكنه لن يرى منها إلا ما يراه الزمن لمن هم في نهايته… نسخة أخرى من الحيرة ذاتها، والدوران الأزلي نفسه.”
شعرتُ وأنا أراقبه أن الرجل لم يكن يتأمل القرية فقط، بل كان يتأمل العمر حين يكتمل دورته. كان كمن ينظر إلى الدنيا من قمتها الأخيرة، فيرى بداياتها ونهاياتها متجاورتين، ويرى الناس كأمواج تأتي وتمضي، ولا يبقى سوى الجالس في زاوية المقهى يشدّ على الشيشة، ويحاول أن يلتقط آخر ما تبقى من رائحة الأيام القديمة.
خرجتُ من المقهى متثاقلاً، كأن نظرات العجوز حملت إليّ عبءَ تلك السنوات التي عرفها وحده… وأدركتُ أن أعمار الناس ليست في السنين، بل في اللحظات التي يجلسون فيها متأملين كيف تغيّر كل شيء دون أن ينتبهوا.
