
تحقيق/الباحث سليمان عبدالنبي من الهوارية
متابعة عبدالله القطاري من تونس
سيدي داود، الهوارية (تونس) – تتمتع منطقة سيدي داود في شبه جزيرة الوطن القبلي، وتحديدا في معتمدية الهوارية، بتاريخ عريق وضارب في القدم في مجال صيد سمك التن الأحمر، حيث شكل هذا النشاط على مر القرون حجر الزاوية في اقتصاد المنطقة وهويتها الثقافية. وقد امتزجت في هذا التاريخ التقاليد المحلية بالتقنيات الوافدة، لتخلق فصلا فريدا من فصول العلاقة بين الإنسان والبحر في حوض البحر الأبيض المتوسط.
جذور تمتد إلى العصر الروماني
تشير الدلائل التاريخية إلى أن نشاط الصيد البحري في هذه المنطقة يعود إلى العصر الروماني، حيث كانت تقوم في موقع سيدي داود الحالي مدينة وميناء “ميسوا”
(Missua) الرومانية
. وتُظهر العديد من لوحات الفسيفساء الرومانية التي عُثر عليها في تونس مشاهد تتعلق بالصيد البحري، مما يدل على الأهمية الاقتصادية والثقافية لهذا النشاط في تلك الحقبة. ومن المرجح أن صيد أسماك التن الكبيرة، التي تعبر بكثافة من هذه المنطقة، كان جزءًا من هذا النشاط البحري القديم.
“المضربة”: التقنية الإيطالية التي شكلت تاريخ المنطقة
ارتبط تاريخ صيد التن الأحمر في سيدي داود ارتباطا وثيقا بتقنية “”المضربة (madrague)،
أو ما يعرف بـ “التونارة”
(tonnara) بالإيطالية.
وهي عبارة عن نظام معقد من الشباك الثابتة التي تمتد من الساحل إلى عرض البحر، لتشكل مصيدة عملاقة تعترض مسار أسماك التن المهاجرة.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذه التقنية قديمة، إلا أن الإيطاليين، وتحديدا من جنوة وصقلية، هم من أرسوا دعائمها وطوروها في سيدي داود.
وتعود أقدم إشارة مدونة إلى وجود “تونارة” في المنطقة إلى عام 1480، حيث تذكر رسالة من السلطات الجنوية إلى “ملك” تونس شكوى بخصوص امتياز صيد التن.
وقد استمر هذا التأثير الإيطالي لقرون، حيث كانت العديد من العائلات الإيطالية تدير “مضربة” سيدي داود وتستثمر فيها، ناقلة خبراتها ومعارفها إلى البحارة التونسيين.
“المذبحة” (La Mattanza): طقس ثقافي واقتصادي مهيب
كانت ذروة موسم صيد التن تتمثل في ما يعرف بـ “المذبحة” وهي عملية إدخال الأسماك المحتجزة في “غرفة الموت” داخل المضربة، ومن ثم رفعها إلى سطح الماء ليبدأ الصيادون في عملية صيدها بالخطافات في مشهد مهيب يمتزج فيه الجهد الجماعي بالتقاليد العريقة. لم تكن “المذبحة” مجرد عملية صيد، بل كانت طقسا احتفاليا واجتماعيا يشارك فيه أهالي المنطقة، ويجذب الزوار لمشاهدة هذا الصراع المثير بين الإنسان وأسماك التن العملاقة.
من التقليد إلى الصناعة: معمل سيدي داود
مع تزايد أهمية صيد التن، شهدت سيدي داود في عام 1824 تأسيس معمل لتعليب سمك التن، والذي يعد من أوائل معامل التعليب في حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد شكل هذا المعمل نقلة نوعية في تاريخ المنطقة، حيث انتقل بها من الصيد التقليدي الموجه للاستهلاك المحلي والتصدير المحدود إلى مرحلة التصنيع والإنتاج الواسع، مما عزز من الأهمية الاقتصادية لسيدي داود كمركز رئيسي لصيد وتصنيع التن في تونس.
نهاية حقبة وبداية أخرى
مع مرور الزمن، بدأت تقنية “المضربة” التقليدية في الانحسار. فارتفاع تكاليف صيانتها، وتطور تقنيات الصيد الحديثة الأكثر فعالية مثل شباك الصيد الدائرية (purse seiners)،
بالإضافة إلى تراجع أعداد سمك التن الأحمر في المتوسط، كلها عوامل أدت إلى التخلي التدريجي عن هذه الطريقة التقليدية.
وقد شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إيقاف العمل بـ
“مضربة” سيدي داود بشكل نهائي، لتطوى بذلك صفحة مهمة من تاريخ المنطقة.
ورغم توقف “المضربة” و”المذبحة” التي كانت تميزها، يبقى تاريخ صيد التن الأحمر جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة وهوية سيدي داود والهوارية، شاهدا على علاقة متجذرة بين أهلها والبحر، وعلى التفاعل الثقافي والاقتصادي الذي أغنى تاريخ تونس البحري لقرون طويلة.