كتبت: د. إيمان بشير ابوكبدة 

تُعد تجارة الأعضاء البشرية واحدة من أبشع الجرائم المنظمة التي تتغذى على الفقر واليأس. إنها شبكة إجرامية عالمية معقدة تربط بين الفئات الأشد فقرًا، الذين يجبرون على بيع أجزاء من أجسادهم مقابل مبالغ زهيدة، وبين المرضى الأثرياء اليائسين الذين يبحثون عن حل سريع لإنقاذ حياتهم. هذه التجارة غير الشرعية تقدر بمليارات الدولارات سنويًا، وتتسبب في معاناة لا حصر لها، وتُعرّض حياة الضحايا للخطر.

أسباب انتشار تجارة الأعضاء

الفقر المدقع والحاجة الاقتصادية: تُعتبر هذه هي المحرك الرئيسي لهذه التجارة. يجبر الفقراء، خاصة في الدول النامية، على بيع أعضائهم لتوفير المال لسداد الديون، أو إعالة أسرهم، أو الهروب من الفقر.

الطلب المتزايد على الأعضاء: يواجه ملايين الأشخاص حول العالم الفشل الكلوي أو الكبدي أو القلبي. ومع قلة عدد المتبرعين القانونيين، تزداد قوائم الانتظار، مما يدفع بعض المرضى إلى البحث عن حلول غير قانونية، مهما كان الثمن.

ضعف الأنظمة القانونية والرقابية: في العديد من البلدان، يكون غياب التشريعات الصارمة أو ضعف تطبيقها فرصة سانحة للشبكات الإجرامية للعمل في الخفاء دون خوف من العقاب.

التطور الطبي وتوافر التقنيات: على الرغم من أن التطور الطبي إيجابي في حد ذاته، إلا أنه أتاح للمجرمين إجراء عمليات نقل الأعضاء بطرق أكثر سرية، مما يجعل اكتشافها صعبًا.

أنماط تجارة الأعضاء: من الاستغلال إلى الاختطاف

تتخذ هذه الجريمة أشكالًا متعددة:

شراء الأعضاء: هذا هو النمط الأكثر شيوعًا. يقوم السماسرة بإغراء الأفراد الفقراء بالمال مقابل التبرع بأعضائهم، وعادة ما تكون الكلى هي العضو الأكثر طلبًا. يتم استغلال الضحايا ماديًا وجسديًا، حيث يتلقون مبالغ لا تزيد عن 5% من السعر الحقيقي الذي يُدفع للمريض.

الاستغلال المباشر: في بعض الحالات، يتم إقناع اللاجئين أو العمال المهاجرين الذين يمرون بظروف صعبة، ببيع أعضائهم. يتم استغلال وضعهم غير القانوني وخوفهم من السلطات.

الاستئصال القسري: في حالات نادرة لكنها تحدث، يتم اختطاف أشخاص واستئصال أعضائهم بالقوة، ثم يتركون للموت أو يُتركون في ظروف صحية صعبة.

التبرعات المزيفة: حيث يتم تزييف الوثائق القانونية لجعل عملية التبرع تبدو طوعية وقانونية، بينما هي في الحقيقة عملية تجارية مقابل المال.

أشهر القضايا والبلدان الأكثر تأثرًا

مصر

شبكة تجارة الأعضاء الدولية (2016): تعد هذه القضية من أكبر قضايا الاتجار بالأعضاء في تاريخ مصر. أحالت النيابة العامة 41 متهمًا إلى محكمة الجنايات، بينهم أطباء وممرضون وسماسرة. كشفت التحقيقات عن إجراء 29 عملية جراحية لنقل كلى لمرضى أجانب. كان المتهمون يشترون الكلى من المصريين الفقراء مقابل 10-15 ألف جنيه، ثم يبيعونها للمرضى الأجانب مقابل 80-120 ألف دولار.

قضية تجارة الأعضاء بالجيزة (2017): كشفت التحقيقات عن شبكة إجرامية تستقطب ضحاياها من المناطق الريفية والشعبية، وتجري عمليات استئصال الأعضاء في مستوصف خاص غير مرخص. كان يشارك في هذه الشبكة طلاب طب، مما أثار قلقًا واسعًا حول مدى تغلغل هذه الجريمة في القطاع الطبي.

 شبكة الاتجار بالبشر والأعضاء في حلوان (2021): تم إحالة 8 متهمين من جنسيات مختلفة إلى محكمة الجنايات، حيث أسسوا جماعة إجرامية منظمة للاتجار بالبشر والأعضاء في مستشفيين شهيرين. استغل المتهمون حاجة الضحايا المادية لإجراء عمليات نقل أعضاء غير قانونية.

باكستان والفلبين

تعد هاتان الدولتان من “البؤر” الساخنة لتجارة الأعضاء، حيث يعرفان بـ “مراكز السياحة العلاجية” غير القانونية. يستقطب السماسرة المرضى الأجانب ويجرون عمليات زرع الأعضاء في عيادات سرية، مستغلين الفقر المدقع للسكان المحليين.

الصين

تتهم الصين منذ فترة طويلة بوجود شبكات تجارية كبيرة للأعضاء، خاصة من خلال استئصال أعضاء سجناء الرأي، والمعارضين السياسيين، وأتباع جماعات دينية محظورة. وعلى الرغم من نفي الحكومة الصينية، إلا أن تقارير دولية متعددة أكدت هذه الممارسات.

الجهود الدولية والقانونية لمكافحة تجارة الأعضاء

البروتوكولات الدولية: تعد “بروتوكول باليرمو” لمكافحة الاتجار بالأشخاص من أهم الاتفاقيات الدولية. وقد انضمت إليه العديد من الدول، بما فيها مصر، لتعزيز التعاون الدولي في مكافحة هذه الجريمة.

القوانين الوطنية: تقوم العديد من الدول بسن قوانين صارمة تجرّم الاتجار بالأعضاء البشرية، وتفرض عقوبات مشددة على المتورطين.

التوعية المجتمعية: تُعد الحملات التوعوية ضرورية لزيادة وعي الناس بمخاطر هذه الجريمة، خاصة الفئات الضعيفة.

تعزيز الشفافية والرقابة: يجب على الحكومات تعزيز الرقابة على المستشفيات والعيادات، وتوفير نظام قانوني وشفاف لتنظيم عمليات التبرع بالأعضاء.

حكم القانون المصري في تجارة الأعضاء

تتصدى مصر لجريمة الاتجار بالأعضاء البشرية من خلال قوانين صارمة تهدف إلى تجريم جميع أشكال التعامل في الأعضاء البشرية مقابل المال.

قانون رقم 5 لسنة 2010 بشأن تنظيم زرع الأعضاء البشرية

هذا القانون هو الإطار الأساسي الذي ينظم عمليات زرع الأعضاء في مصر. يمنع القانون بشكل قاطع أي تعامل تجاري في الأعضاء البشرية، سواء بالبيع أو الشراء أو بأي مقابل مادي أو عيني. ويشدد القانون على ضرورة أن يكون التبرع طوعيًا ومن خلال إجراءات رسمية تحت إشراف لجان متخصصة.

العقوبات

ينص القانون على عقوبات مشددة على المتورطين في هذه الجريمة:

السجن المشدد: عقوبة تصل إلى السجن المشدد لمدة 15 سنة على الأقل لكل من يمارس الاتجار بالأعضاء.

السجن المؤبد أو الإعدام: إذا ترتب على الجريمة وفاة المجني عليه، يمكن أن تصل العقوبة إلى السجن المؤبد أو الإعدام.

الغرامات المالية: يفرض القانون غرامات مالية كبيرة على المتهمين تصل إلى ملايين الجنيهات.

عقوبات إضافية: يمكن للمحكمة أن تحكم بعزل الأطباء والممرضين المتورطين من وظائفهم، وغلق المنشآت الطبية غير المرخصة التي تجرى فيها هذه العمليات لمدة معينة أو بشكل دائم.

قانون مكافحة الاتجار بالبشر (2010)

يكمل هذا القانون الإطار القانوني لمكافحة الجريمة، حيث يوسع تعريف الاتجار بالبشر ليشمل تجنيد أو نقل أو إيواء أو استقبال الأشخاص بهدف استغلالهم، بما في ذلك استئصال الأعضاء. وتُطبق العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون على أي شخص يرتكب هذه الجريمة، مع تشديد العقوبة إذا كان المجني عليه طفلًا أو امرأة.

تهدف هذه التشريعات إلى ردع المجرمين وحماية حقوق الضحايا، وتؤكد على أن جسد الإنسان ليس سلعة للبيع والشراء.