
كتب : جمال حشاد
في زمنٍ يفيض بالخيارات، تتضاءل القدرة على تحويل المعرفة إلى سلوك. لسنا في نقصٍ من النصائح، بل في ندرةٍ من الانضباط والمعنى. لهذا بات تطوير الذات اليوم «موضوع الساعة» ليس كترفٍ ثقافي، بل كحاجة إنسانية واقتصادية وصحّية. تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أنّ 31% من البالغين حول العالم، و80% من المراهقين، لا يلبّون مستويات النشاط البدني الموصى بها—وهو مؤشرٌ ينعكس على الصحة الجسدية والنفسية والإنتاجية.
ومع أن مشاعر العالم تحسّنت قليلًا بعد عقدٍ من الارتفاع في المؤشرات السلبية، فإنّ خريطة الانفعال الإنساني لا تزال مضطربة؛ فقد سجّل «مؤشر التجارب السلبية» لدى غالَب—المعني بقياس معدلات القلق والحزن والغضب والألم—انخفاضًا إلى 31 نقطة في 2023 (عودةً إلى مستوى ما قبل الجائحة)، لكنّ نسبة من صرّحوا بأنهم شعروا بالوحدة خلال «جزء كبير من اليوم السابق» بلغت 23% من البالغين عالميًا. هذه الأرقام تُظهر أنّ تحسين «العيش اليومي» لا يقلّ إلحاحًا عن تحقيق الإنجازات.
على الجانب المعرفي، لا يزال 754 مليونًا من الكبار في العالم يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة الأساسية—غالبيتهم من النساء. في عالمٍ يُقاس فيه الوصول إلى الفرص بمعيار «القدرة على التعلّم مدى الحياة»، يبدو هذا الرقم صادمًا أخلاقيًا واستراتيجيًا في آنٍ واحد؛ إذ لا تنحصر آثاره في الهشاشة الاقتصادية، بل تمتد إلى الصحة، والمشاركة المدنية، وترابط المجتمع.
يتسارع التحوّل الرقمي بوتيرة غير مسبوقة؛ فوفق تقرير، انضمّ 241 مليون هوية مستخدم نشطة إلى وسائل التواصل بين يوليو/2024 ويوليو 2025 (بمعدل 660 ألفًا يوميًا)، فيما يستخدم 96.5% من البالغين على الإنترنت شبكةً أو تطبيق مراسلة واحدًا على الأقل شهريًا. هذا يعني أن إدارة الانتباه لم تعد مهارةً لطيفة الإضافة، بل «عضلة» نحتاج لتدريبها كي لا ننزلق إلى فخ الإنتاجية الزائفة؛ وهو ما يحدث لدينا الآن.
التعلّم مدى الحياة: من شعارٍ نبيل إلى ممارسة قابلة للقياس:
تكشف أحدث مراجعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنّ نحو 40% من البالغين في دولها يشاركون في تعلّمٍ سنوي، مع تباينات واسعة بين البلدان. وعلى متوسط الدول، يشارك 8% في تعلّمٍ «رسمي» سنويًّا، و37% في تعلّم «غير رسمي»—أي دورات قصيرة وورش وبرامج داخل العمل. الرسالة العملية هنا: معظم اكتساب المهارات اليوم يتم خارج القاعات التقليدية، وفي مساحات مرنة تُصمَّم حول سياق العمل والحياة.
من «تطوير الذات» إلى «هندسة اليوم»:
1) المدخل الجسدي: الأبسط قياسًا والأسرع أثرًا. يوصي الدليل الصحي العالمي بـ150 دقيقة من نشاطٍ معتدل أو 75 دقيقة من نشاطٍ شديد أسبوعيًا، إضافةً إلى تمارين المقاومة. الأثر لا يقتصر على القلب والعضلات؛ فالنشاط المنتظم يرتبط بخفض أعراض القلق والاكتئاب وتحسين النوم والقدرات المعرفية. ابدأ بخطّة «10×15»: خمس عشرة دقيقة يوميًا لعشر مرات أسبوعيًا (بما في ذلك المشي السريع وتمارين وزن الجسم). المهم هو الدوام لا الشدّة.
تكتيك التنفيذ: ضع «موعدًا صحيًا» ثابتًا على التقويم، وتعامَل معه كاجتماعٍ مع مديرك. اختر نشاطًا يسهل فعله بلا تجهيزات: مشيٌ سريع، قفز الحبل، بعد أسبوعين، أضف مجموعتين من تمارين الدفع والسحب والقرفصاء.
2) إذا كان 96.5% من البالغين يستخدمون منصّات التواصل شهريًا، فالإدمان ليس عيب إرادة فردية فقط، بل نتيجة تصميم بيئات تجذب انتباهك. الحل ليس «الانقطاع التام»، بل تقليل الاحتكاك.. كيف ؟
أخرج التطبيقات الأكثر تشتيتًا من الشاشة الرئيسية.
حدد «ساعات بلا إشعارات» قبل النوم وبعد الاستيقاظ.
حوّل الهاتف إلى «أبيض وأسود» خلال العمل.
هذه التغييرات الصغيرة تراكم دقائق مركّزة تُعاد استثمارها في تعلّمٍ أو راحةٍ أعمق.
3) كون التعلّم غير الرسمي يغطي نحو 37% من مشاركة البالغين، يصبح السؤال: كيف نحول شتات المواد المجانية إلى منهجٍ شخصي؟
تبنَّ مبدأ «1% يوميًا»: 30–45 دقيقة تعلّم موجّه (دورة قصيرة، فصل كتاب تقني، تمرين تطبيقي).
اعمل بدورات مهارية مدتها 4 أسابيع (Sprint): هدفٌ واحد محدد + مشروع تطبيقي مصغّر + عرض مخرجات.
اربط كل دورة بمؤشر أداء شخصي : مرجعٌ عملي؛ أو قطعة برمجية، أو مقالة تفسيرية.
هكذا تبني «حافظة مهارات» تنمو ببطء وثبات.
4) مكافحة”الأمية الحديثة” لا يزال 754 مليونًا يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة؛ وفي عالمٍ تحكمه واجهات نصية وخوارزميات، تتحول اللغة إلى «بنية تحتية للترقي الاجتماعي». حتى للمتعلمين، توجد «أمية حديثة» تتمثل في العجز عن القراءة العميقة وسط التشتيت. عالجها بـ«ساعة قراءة ورقية يومية» بلا شاشة مع تدوينٍ لجملةٍ واحدة تلخّص الفكرة الرئيسية.. ومع الوقت، تتحوّل القراءة من استهلاكٍ عابر إلى إتقانٍ مُنظم.
5) وُثِّق شعورُ الوحدة لدى قرابة ربع البالغين عالميًا. لا تعالج هذه الفجوة بالوعظ، بل ببناء «طقوس اجتماعية صغيرة» قابلة للقياس: موعد أسبوعي للسير مع صديق، دائرة قراءة شهرية، جلسة تعلم جماعي عبر الإنترنت. تعزّز هذه الطقوس «الالتزام الاجتماعي» وتضيف معنىً يتخطّى إنجازات الفرد المنعزلة.
خطة 30 يومًا: بروتوكول «أقلّ ولكن بانتظام»
الأسبوع 1 :10 دقائق مشي سريع يوميًا + مجموعتان مقاومة (دَفع/سَحب/قُرفصاء).
20 دقيقة قراءة ورقية قبل النوم؛ وضبط الهاتف على وضع «لا إشعارات صباحًا ومساءً».
الأسبوع 2: رفع المشي إلى 20 دقيقة × 5 أيام + تمرين «الدقائق السبع» مرتين.
بدء Sprint تعلّم (موضوع واحد صغير) بمدة 4 أسابيع.
الأسبوع 3: إدراج تمرين مقاومة ثالث + اختبار لياقة بسيط (قياس عدد التكرارات/زمن الجري لمسافة قصيرة).
إنتاج مخرَج وسيط من Sprint (ملخص، سكريبت، نموذج أولي).
جلسة تطوّعية أو مساعدة معرفية لشخص آخر (التعليم يرسّخ التعلّم).
الأسبوع 4: يوم راحة نشطة + تقييم الالتزام (كم يومًا التزمت؟ ما العوائق؟)؛ وعرض مخرجات Sprint أمام شخص/مجموعة صغيرة.
تثبيت طقوس اجتماعية أسبوعية دائمة؛ فالهدف ليس الكمال، بل تقليص فجوة النية والسلوك. ومع كل أسبوعٍ تُراكم «هويةً صغيرة» جديدة: رياضيًّا مبتدئًا، قارئًا منتظمًا، متعلّمًا دائمًا، وشخصًا أكثر حضورًا في علاقاته.
يجب ان تكون الثقافة الذاتيّة منسجمة مع العالم حولك لتطوير الذات؛ فهو ليس انعزالًا، بل مشاركة: أنت تتعلم لتضيف قيمةً تُرى وتُختبر. على مستوى المجتمعات، دعم البنية التحتية للتعلّم (منصّات عامة، مكتبات حيّة، مسارات تدريب قصيرة ممولة) يضاعف أثر الجهد الفردي. وعلى مستوى المؤسسات، اعتماد ساعات «تعلم مُحمية» داخل الدوام، وتبنّي قياسات أداء تُكافئ التعلّم القابل للتحقق وليس «الحضور الزمني»، يصنع فارقًا تراكميًا في رأس المال البشري.
على الصعيد الشخصي، ركّز على ثلاث معادلات بسيطة:
1. الوقت × الانتباه = جودة التعلّم.
2. التكرار × الجرعة الصغيرة = عادة.
3. المعنى × الآخرين = استدامة
لقد أثبتت الأرقام أن المشكلة عالمية: حركةٌ أقل مما ينبغي، مشاعر مضطربة رغم التحسّن، تعلّم غير رسمي يزدهر لكنه غير متكافئ، وفجوة قراءةٍ تُهدد ملايين. والحل؟ ليس «انقلابًا» في نمط حياتك، بل إعادة ترتيبٍ ذكي ليومك—15 دقيقة صحة، 30 دقيقة معرفة، وطقس اجتماعي صغير—تتكرر بلا ضجيج حتى تُصبح «جزءًا من تعريفك لنفسك». عندها، يتبدّل سؤال «ماذا أنجزت؟» إلى «من أصبحت؟»—وهذه أوثق إجابة يمكن أن يمنحها إ
نسانٌ لنفسه في عالمٍ سريع التحوّل الرقمي بوتيرة غير مسبوقة ولم يكسرها أحد.