بقلم: د. نبيل سامح
1. المقدمة
في ظل التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة وتقليل انبعاثات الكربون، أصبح حقن الغازات في المكامن المستنزفة أحد أكثر الاتجاهات الواعدة لتحقيق إدارة مستدامة للمكامن وتقليل البصمة الكربونية. ويعد الحقن الهجين للهيدروجين وثاني أكسيد الكربون من التقنيات الحديثة التي تجمع بين إنتاج الطاقة النظيفة وتخزين الكربون في الوقت نفسه.
تعتمد الفكرة على استخدام المكامن النفطية أو الغازية المستنزفة كمفاعلات طبيعية تحت الأرض يمكنها استقبال كل من الهيدروجين (كمصدر للطاقة) وثاني أكسيد الكربون (كمخزن آمن)، مع تحقيق
توازن حراري وهيدروكيميائي دقيق بين الغازين والمكمن.
2. الخلفية العلمية والتقنية
في السنوات الأخيرة، توسع الاهتمام بدراسة السلوك الديناميكي للهيدروجين عند حقنه في الطبقات الجيولوجية، نظرًا لطبيعته عالية النفاذية وصغر حجمه الجزيئي، مما يجعل احتجازه داخل الصخور تحديًا تقنيًا.
في المقابل، أثبت ثاني أكسيد الكربون كفاءته في عمليات الحقن لزيادة إنتاج النفط (EOR) وفي مشاريع التخزين الجيولوجي (CCS). ومن هنا نشأت فكرة الجمع بين الغازين في استراتيجية هجينة تستفيد من مزايا كل منهما.
الهيدروجين يساهم في تحسين ضغط المكمن والحفاظ على ديناميكية السوائل، بينما يقوم ثاني أكسيد الكربون بدور عامل الإزاحة والاحتجاز طويل الأمد. هذا التآزر بين الغازين يؤدي إلى بيئة متوازنة فيزيائيًا وكيميائيًا ضمن الصخور المسامية.

3. المفهوم الفيزيائي المتعدد للنظام الهجين
النمذجة متعددة الفيزياء (Multi-Physics Modelling) تعتبر أداة أساسية لفهم السلوك المعقد للغازين داخل المكامن المستنزفة. فهي تجمع بين ميكانيكا الموائع، وانتقال الحرارة، والتفاعلات الجيوكيميائية، وسلوك الصخور.
عند حقن مزيج من الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، تحدث عدة ظواهر فيزيائية متداخلة:
• انتشار غازي مزدوج: نتيجة اختلاف الكثافة واللزوجة، ينتشر الهيدروجين بسرعة أعلى من ثاني أكسيد الكربون داخل المسام الدقيقة.
• تفاعلات سطحية: يتفاعل ثاني أكسيد الكربون مع معادن الكربونات والرمل مكوّناً مركبات مستقرة مثل الكالسيت والدولوميت.
• توازن حراري: عملية الحقن المزدوج تتطلب مراقبة التغيرات الحرارية الناتجة عن تمدد الغازات أو امتصاصها داخل الطبقة المسامية.
• التكامل الهيدروديناميكي: الحفاظ على توازن الضغط بين الغازين يمنع تكوين قنوات تسرب أو مناطق احتباس غير مرغوبة.
4. تصميم النموذج النظري للحقن الهجين
تصميم نظام حقن هجين يتطلب تحليل دقيق لخواص المكمن الجيولوجي، وتحديد أفضل نسب المزج بين الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون.
عادةً يبدأ التصميم بنموذج محاكاة رقمي يعتمد على بيانات المسامية والنفاذية ومعدل الانضغاطية وخصائص الصخور.
الهدف هو تحقيق نظام ديناميكي مستقر يمكنه:
• تعزيز الضغط في المكامن المستنزفة تدريجيًا دون التسبب في تكسير الطبقات.
• ضمان تفاعل كيميائي آمن بين ثاني أكسيد الكربون والمعدن لتثبيت الكربون.
• الحفاظ على نقاء الهيدروجين لعمليات الاستخلاص اللاحقة في حال إعادة إنتاجه.
كما يتطلب التصميم دراسة توزيع الآبار المنتجة والحقنية بطريقة تقلل التداخل الغازي وتزيد من الكفاءة الحجمية للحقن.
5. سلوك الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون داخل الصخور
في النظام الهجين، يلعب الضغط ودرجة الحرارة دورًا محوريًا في تحديد سلوك الغازات داخل المسام.
• عند درجات الحرارة المنخفضة والضغوط المتوسطة، يميل الهيدروجين إلى الانتشار في المناطق ذات المسامية العالية.
• بينما عند الضغوط العالية، يزداد امتصاص ثاني أكسيد الكربون داخل المسام الدقيقة، مما يخلق طبقة واقية تعمل كـ”سد طبيعي” يمنع فقدان الهيدروجين.
هذا التفاعل المتبادل يعزز استقرار النظام ويزيد من القدرة التخزينية للمكمن على المدى الطويل. كما أن وجود CO₂ يقلل من مخاطر التفاعلات الكيميائية غير المرغوبة بين الهيدروجين والماء أو المعادن الطينية.
6. تصميم المشروع التجريبي (Pilot Design)
يُعد المشروع التجريبي الخطوة الأساسية قبل تطبيق الحقن الهجين على نطاق واسع. ويجب أن يعتمد تصميمه على ما يلي:
• اختيار مكمن مناسب: مكامن ذات إغلاق جيولوجي محكم وقدرة تخزينية عالية.
• تحليل جيوميكانيكي متكامل: لتجنب حدوث تشققات ناتجة عن زيادة الضغط الداخلي.
• أنظمة مراقبة ذكية: تعتمد على أجهزة استشعار متقدمة لقياس الضغوط، ودرجات الحرارة، وتركيب الغازات داخل الخزان في الزمن الحقيقي.
• نظام تحكم رقمي: باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمتابعة الأداء وتصحيح معدلات الحقن في الوقت الفعلي.
هذه الخطوات تضمن فهماً دقيقاً لكيفية تفاعل الغازين داخل الطبقة المنتجة، وتوفر بيانات علمية تدعم تطوير المشاريع التجارية مستقبلاً.
7. البعد البيئي والاستدامة
يُعد هذا النوع من الحقن خطوة مهمة نحو الحياد الكربوني، إذ يجمع بين تقليل الانبعاثات وتخزين الكربون في باطن الأرض.
كما أن استخدام المكامن المستنزفة يعزز مفهوم الاقتصاد الدائري للطاقة من خلال إعادة توظيف البنى التحت سطحية بدل حفر مواقع جديدة.
إضافة إلى ذلك، فإن المزج بين الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون يقلل من الانبعاثات الناتجة عن النقل والتخزين السطحي، ويحافظ على سلامة البيئة المحيطة بالمكمن.
8. آفاق البحث والتطوير المستقبلية
البحوث الحديثة تتجه نحو تطوير نماذج رقمية عالية الدقة تستخدم الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعلم العميق للتنبؤ بسلوك النظام الهجين عبر الزمن.
كما يجري العمل على تطوير مواد نانوية تساعد في تحسين احتجاز الغازين داخل المسام، وتمنع التفاعلات الكيميائية غير المستقرة.
في المستقبل القريب، من المتوقع أن تصبح المكامن المستنزفة مختبرات طبيعية لتخزين الهيدروجين والطاقة الخضراء، مما يفتح المجال أمام مشاريع تجارية كبيرة تجمع بين الإنتاج النظيف والأمن البيئي.
9. الخاتمة
يمثل الحقن الهجين للهيدروجين وثاني أكسيد الكربون في المكامن المستنزفة نقلة نوعية في إدارة الموارد البترولية والانتقال الطاقي المستدام.
فهو لا يهدف فقط إلى تحسين كفاءة التخزين وضمان أمان المكامن، بل يسهم في تحقيق أهداف خفض الانبعاثات وتحويل البنية التحتية البترولية التقليدية إلى أدوات لخدمة الاقتصاد الأخضر.
النمذجة متعددة الفيزياء وتصميم المشاريع التجريبية يمثلان الركيزة الأساسية لهذا الاتجاه الواعد، الذي يجمع بين الابتكار العلمي والمسؤولية البيئية لتحقيق مستقبل طاقي نظيف وآمن.
بقلم: د. نبيل سامح
• مدير تطوير الأعمال بشركة نيلكو للبترول
• مدرب دولي معتمد في قطاع البترول
• أستاذ بعدة مؤسسات وأكاديميات تدريبية، منها: إنفايروأويل، وأكاديمية زاد، وأكاديمية ديب هورايزون
• محاضر في جامعات داخل مصر وخارجها
• كاتب ومساهم في مقالات قطاع البترول في مجلتي Petrocraft و وPetrotoday
