بقلم : جمال حشاد
لطالما لعبت مصر دورًا مركزياً في مسارات السلام في الشرق الأوسط، انطلاقًا من موقعها الجغرافي، ووزنها السياسي والإقليمي، ومصلحة الأمة العربية في استعادة الحقوق والتوازن الإقليمي. من ذلك دورها التاريخي في إرساء معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، وصولاً إلى استضافتها لقمة شرم الشيخ للسلام في أكتوبر 2025، حيث سعت لتفعيل أدوار الوساطة المصرية ضمن محاور السلام في القضية الفلسطينية. يأتي هذا التقرير ليلقي الضوء على هذه المحطتين الكريمتين، مع تحليل الإنجازات والتحديات والدروس.
أولًا: دور مصر في معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية:
السياق التاريخي: بعد حرب أكتوبر 1973 ونتائج الصراع العربي–الإسرائيلي التي تركت المنطقة في حالة توتر، بادرت مصر إلى تغيير نهجها باتجاه الحل الدبلوماسي، فزار الرئيس أنور السادات القدس في نوفمبر 1977، وأعلن عن رغبة مصر في السلام.
نتائج زيارة القدس وتلك المبادرة وضعت الأساس للتفاوض على اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة في 1978، والتي تمخّضت في 26 مارس 1979 بتوقيع معاهدة سلام بين القاهرة وتل أبيب.
نصت المعاهدة على عدة بنود أساسية، منها إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، انسحاب إسرائيل الكامل من شبه جزيرة سيناء، إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية، وضمان حرية الملاحة في مضيق تيران وخليج العقبة، والالتزام بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
كما تضمن الاتفاق إطارًا للسلام الشامل في المنطقة، أي أن المعاهدة ليست مجرد تسوية بين طرفين، بل كانت تُصوَّر كجزء من تسوية واسعة في النزاع العربي–الإسرائيلي.
الإنجازات والدور المصري:
فتح الطريق لحوار عربي إسرائيلي: معاهدة السلام المصرية كانت أول اعتراف رسمي بين دولة عربية وإسرائيل، فكسر هذا الحاجز وفتح آفاقًا لتفاوضات مستقبلية مع دول عربية أخرى.
استعادة السيادة على أرض سيناء: انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها وفقًا لبنود المعاهدة أعاد السيطرة المصرية على شبه جزيرة سيناء، وهو مطلب استراتيجي وأمن قومي.
ثقة دولية ودور الوسيط: من خلال توقيع السلام، حازت مصر على مكانة مميزة كوسيط محتمل بين الأطراف، سواء إسرائيل أو الدول العربية أو الولايات المتحدة، ما عزز دورها الدبلوماسي في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
استمرار النفوذ السياسي: حتى بعد التوقيع، حرصت مصر على أن تحافظ على الثوابت، بما في ذلك دعم القضية الفلسطينية، وعدم السماح بانهيار الحقوق الفلسطينية، مع موازنة الالتزامات الموقعة.
التحديات والمآخذ: رغم المعاهدة، فإن العلاقات بين مصر وإسرائيل ظلت “باردة” وشحوبة في كثير من الفترات، وما كان هناك تطبيع شعبي أو ثقافي كامل.
ظهرت مطالب داخلية ومطالب عربية بإعادة النظر في المعاهدة أو تعديل بنودها، خاصة في الفترات التي شهدت تصعيدًا إسرائيليًا في الأراضي الفلسطينية، أو توترات أمنية على حدود سيناء.
تنوّع التحديات الأمنية في سيناء، والجماعات المسلحة والعمليات الإرهابية، ضغطت على مصر في كيفية تفعيل الجانب الأمني ضمن إطار المعاهدة دون خرقها. القاهرة نفت أن تكون أقدمت على خرق المعاهدة، مؤكدة أن وجود القوات في سيناء يهدف لتأمين الحدود وفق التنسيق المسبق مع الأطراف.
البعض يتهم أن أرضية السلام التي وضعتها المعاهدة لم تنجح في معالجة القضية الفلسطينية الكلية أو تحقيق دولة مستقلة، ما يثير مآخذ من الرأي العام العربي على أن المعاهدة كانت تنازلاً من طرف واحد.
ثانيًا: دور مصر في قمة شرم الشيخ للسلام 2025:
في أكتوبر 2025، استضافت مصر في مدينة شرم الشيخ قمة دولية للسلام، عنونتها بإنهاء الحرب في غزة وإعادة تفعيل صفقة السلام، بمشاركة دول عربية وإقليمية ودولية عدة، وبوساطة مصرية- أمريكية- قطرية- تركية.
دوافع الاستضافة والمبادرة المصرية:
مصر لطالما اعتبرت نفسها “منصة السلام” في الشرق الأوسط، وقد وجدت في الأزمة في غزة فرصة لتجديد دورها القيادي والوسيط الإقليمي.
استضافتها للقمة ترسخ مكانتها كدولة تقع في وسط الأزمة الجغرافية، وقادرة على استدعاء الأطراف المعنية إلى طاولة التفاوض.
الكلمة التي ألقاها الرئيس عبد الفتاح السيسي في القمة شددت على أن مصر دشنت مسار السلام في المنطقة منذ زيارة السادات للقدس، وأنها تلتزم بدعم حل الدولتين كسبيل لتحقيق الطموح المشروع للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.
ما تحقق خلال القمة:
تم توقيع وثيقة اتفاق بوساطة مصرية وأمريكية وقطرية وتركية لوقف إطلاق النار في غزة، وتبادل الرهائن، والبدء في خطة مرحلية لانسحاب إسرائيلي من القطاع.
الحضور الدولي الواسع للقمة – بمشاركة 31 من القادة وممثلي الدول والمنظمات – يُعدّ دليلاً على الثقة الدولية في دور مصر كفاعل محوري في إدارة ملفات السلام.
أكدت مصر في البيان الختامي للقمة على آليات تنفيذ الاتفاق، من بينها وقف الحرب الشامل، استكمال تبادل الأسرى، الانسحاب الإسرائيلي التدريجي، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية.
الإعلام الدولي وصف القمة بأنها إنجاز دبلوماسي بارز لمصر، تعيد بها ترسيخ موقعها المحوري في الإقليم، باعتبارها منصة للحوار واستقرار المنطقة.
التحديات والانتقادات: بعض المحللين اعتبروا أن القمة كانت “منصة عرض” أكثر من اتفاق فعلي، حيث قد تغلب الرمزية على المضمون المتين، وأن التنفيذ على الأرض سيكون صعبًا بمواجهة التناقضات الإقليمية.
غياب مشاركة إسرائيل أو ممثلي حماس في القمة يُعد من العقبات على كفاءة التنفيذ، فقد يُشكك في شرعية الاتفاق أو امكانية فرضه عملياً.
عملية التنفيذ تتطلب مراقبة دولية، والتزام الأطراف، وإدارة ملف إعادة الإعمار والحوكمة في غزة، وهي ملفات صعبة تتداخل فيها مصالح دولية وإقليمية متعددة.
هناك تساؤلات حول مدى قدرة مصر على الموازنة بين دورها كضامن للمعاهدة القديمة (مع إسرائيل) ودورها الوسيط في الصراع الفلسطيني، خصوصًا إذا تطلقت الضغوط الداخلية والشعبية والقضايا الأمنية على حدودها.
ثالثًا: الدلالات والاستنتاجات:
رسالة بقاء الدور المصري: من خلال المبادرة واستضافة القمة، تؤكد مصر أنها لا تزال فاعلًا رئيسياً في ملفات السلام الإقليمي، رغم التحديات الإقليمية.
الوساطة والمصداقية: بفضل العلاقات الدبلوماسية التي بنتها مصر على مر العقود مع الأطراف الإقليمية والدول الكبرى، استطاعت أن تجمع قوى متعددة على طاولة واحدة.
الشرط الأساس هو التنفيذ: رغم التوقيع على الوثائق، يبقى التحدي الأكبر هو التنفيذ الفعلي على الأرض. التزام إسرائيل، وضغوط الفصائل الفلسطينية، والدعم الدولي المستمر، كلها عوامل تحكم مدى نجاح القمة كخطوة فعلية لا مجرّد رمزية.
الموازنة بين الالتزامات القديمة والجديدة: مصر مطالبة بأن تحافظ على التزاماتها تجاه معاهدة السلام مع إسرائيل، دون أن تتنازل عن مواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، وهذا توازن دقيق.
القيمة الدبلوماسية للرموز: استعادة مدينة شرم الشيخ كرمز للسلام، بعد أن احتضنت فعاليات دولية (مثل مؤتمر المناخ COP27)، تعزز من الرسالة الرمزية لمصر كأرض للقاء والحوار.
الفرصة والتحدّي: إذا نجحت مصر في المضي في متابعة تنفيذ اتفاق القمة، والتنسيق مع الأطراف الدولية، واستغلال مكانتها كوسيط مستمر، فإن هذه القمة قد تتحول إلى نقطة تحول إيجابية في مسار السلام الفلسطيني – الإسرائيلي.
