كتبت: مريم أحمد
تقف قلعة صلاح الدين الأيوبي في سيناء شامخة على جزيرة فرعون، كجوهرةٍ نادرة تطفو فوق صفحة الخليج، وكأن البحر قد بسط ذراعيه ليحملها بكل ما فيها من هيبة ووقار. شيّدها صلاح الدين عام 1170م بعقلٍ استراتيجي وقلبٍ يعرف أن الأرض لا تُصان إلا بالحكمة والقوة معًا. لم يكن اختيار الموقع مصادفة؛ فالقلعة تحتل نقطة تشرف على مضيق العقبة، فتبدو كعينٍ ساهرة تراقب المياه والجبال والطرق التجارية التي كانت شريانًا للحضارة، وهدفًا لكل غزوٍ يهدّد أمن المنطقة.
لقد أرادها صلاح الدين حصنًا يحمي مصر أولاً، تلك التي كانت ولا تزال درع الأمة وسندها، ثم يحمي ما وراءها من ديار العرب والمسلمين. كانت القلعة بمثابة الرسالة الصامتة التي تقول إن الأمة وإن ضعفت في مرحلة، فإن في داخلها رجالًا يعرفون كيف يعيدون لها قوتها ويحرسون حدودها.
يمتد سور القلعة بمحاذاة الخليج في تشكيل هندسي يأسر الناظر، وقد بُني من حجارة صلبة قاومت الزمن والعواصف، وكأنها صُممت لتبقى للأبد. وعلى طول السور تنتصب ستة أبراج حجرية، تتقدّم نحو البحر بثقة، كأنها محاربون واقفون في صفٍ واحد يحمون الشواطئ من كل جهة. وفي الليل، عندما تلامسها أضواء القمر، يبدو كل برج وكأنه مشعل من نور يحرس الطريق.
أما داخل القلعة، فكل غرفة، وكل ردهة، وكل مدخل يحكي قصة. هناك شعورٌ خفيّ بأن خطوات الجنود لا تزال تتردّد فوق الأحجار، وأن أصوات القادة ما زالت تهمس في الأرجاء بخطط الدفاع، وكأن التاريخ يتنفس بين جدرانها. وفي أعلى نقطة منها، يقف الزائر ليجد نفسه أمام مشهد لا يُنسى: أربعة بلدان تلوح أمامه في الأفق—مصر، الأردن، السعودية، وفلسطين—في لوحة تُذكّر بأن القلعة كانت يومًا قلبًا نابضًا يحمي تخوم الشرق.
إن قلعة صلاح الدين ليست مجرد بناء حجري، بل شهادة على زمنٍ عظيم، وعلى قائد فهم أنّ المعركة ليست سيفًا فقط، بل رؤية، وبصيرة، وقدرة على قراءة اتجاه الريح قبل أن تهبّ. ولذلك ما زالت القلعة حتى اليوم تحمل في تفاصيلها عبق التاريخ، وتبث في روح كل زائر إحساسًا بالفخر والانتماء.
وحين يقف الإنسان أمامها، يشعر بأن البحر من حولها يروي قصةً تمتد لقرون؛ قصة وطنٍ لم يتخلّ يومًا عن دوره في حماية الأمة، وقلعةٍ تقف على حدود التاريخ كأنها تقول لكل من يمرّ بها: إن الحضارات تُصان بالشجاعة، وإن الأرض تبقى ما دام فيها من يعرف
قيمتها.
