د.نادي شلقامي
في زمنٍ باتت فيه الضغوط النفسية جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية، لم يعد القلق حالة عابرة، بل أصبح رفيقًا دائمًا لكثير من البشر. بين سباق الوقت، وأعباء العمل، وتشابك العلاقات الإنسانية، يجد الإنسان نفسه محاصرًا بالضجيج الخارجي والداخلي معًا. ومن هنا تبرز أهمية اليوم العالمي للتأمل، الذي يوافق 21 ديسمبر من كل عام، كمحطة إنسانية للتوقف، والمراجعة، والعودة إلى الذات.
هذا اليوم لا يُعد احتفالًا تقليديًا، بقدر ما هو دعوة عالمية للهدوء، ورسالة توعوية تؤكد أن الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية، وأن دقائق من الصمت الواعي قد تكون طوق نجاة في بحر من التوتر والإنهاك الذهني.
أولا….التأمل… ممارسة إنسانية لا رفاهية
التأمل ليس طقسًا غامضًا ولا ممارسة نخبوية، بل هو فعل بسيط وعميق في آنٍ واحد؛ يتمثل في توجيه الانتباه للحظة الراهنة، ومراقبة الأفكار والمشاعر دون صراع أو إنكار. وهو ممارسة عرفتها الحضارات القديمة، من المصريين القدماء إلى الفلاسفة والمتصوفة، وصولًا إلى اعتماده اليوم كأداة علاجية مساندة في علم النفس الحديث.
وقد أثبتت الأبحاث النفسية والعصبية أن التأمل المنتظم يسهم في خفض مستويات التوتر، وتقليل القلق والاكتئاب، وتحسين القدرة على التركيز، بل والمساعدة في ضبط الانفعالات والانتباه للسلوكيات السلبية قبل تفاقمها.
ثانيا…..لماذا 21 ديسمبر؟
يحمل اختيار هذا التاريخ دلالة رمزية عميقة، إذ يتزامن مع الانقلاب الشتوي، وهو أقصر نهار وأطول ليل في السنة. هذا التوقيت ارتبط تاريخيًا بالتأمل والتفكير الداخلي لدى العديد من الثقافات، باعتباره لحظة سكون كوني، تدعو الإنسان إلى التوقف، لا للنظر إلى الخارج، بل إلى الداخل.
إنه يوم يذكّرنا بأن الهدوء ليس ضعفًا، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من ألف ضجيج، وأن إعادة ترتيب الداخل شرط أساسي لتوازن الخارج.
ثالثا…التأمل والصحة النفسية
من منظور نفسي، يمثل التأمل أداة وقائية وعلاجية في آنٍ واحد. فهو يساعد الفرد على:
1- تفريغ الشحنات الانفعالية السلبية
2- تعزيز الشعور بالطمأنينة والأمان الداخلي
3- تحسين جودة النوم
4- تقوية القدرة على التكيف مع الضغوط
5- بناء علاقة أكثر وعيًا مع الذات والآخرين
كما أن انتشار ثقافة التأمل ينعكس إيجابيًا على المجتمع، عبر الحد من السلوك العدواني، وتعزيز قيم التسامح والحوار، ورفع مستوى الإنتاجية والوعي الجمعي.
رابعا….رسالة اليوم العالمي للتأمل
الرسالة الأعمق لهذا اليوم ليست في الجلوس بصمت لدقائق، بل في إعادة تعريف علاقتنا بأنفسنا. فالتأمل يعلّمنا أن نتوقف قبل الانهيار، وأن نسمع أنفسنا قبل أن نُرهقها، وأن نمنح عقولنا فرصة للراحة وسط عالم لا يعرف التوقف.
وختاما…فإن اليوم العالمي للتأمل ليس ترفًا نفسيًا ولا دعوة للهروب من الواقع، بل هو نداء إنساني صادق لإعادة التوازن، وترميم الداخل، وبناء سلام يبدأ من الفرد لينعكس على المجتمع. ففي عالمٍ يعلو فيه الضجيج، تظل لحظة التأمل فعل مقاومة هادئة… وضرورة للحفاظ على إنسانيتنا.
