د.نادي شلقامي
يُعد الفنان المصري محمد صبحي واحدًا من أبرز رموز الفن العربي الذين جمعوا بين الموهبة الفذة، والوعي الثقافي، والرسالة الإنسانية، ليصبح نموذجًا نادرًا للفنان المفكر الذي لم يكتفِ بالنجاح الجماهيري، بل جعل من الفن أداة للتنوير وبناء الوعي. وعلى مدار أكثر من خمسة عقود، شكّل محمد صبحي مدرسة فنية مستقلة، حافظت على القيم، وواجهت الإسفاف، ودافعت عن هوية المجتمع المصري والعربي.
أولًا….النشأة والبدايات
وُلد الفنان محمد صبحي في مدينة القاهرة عام 1948، ونشأ في بيئة مصرية بسيطة، ساهمت في تشكيل وعيه الاجتماعي المبكر. التحق بـ المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث برزت موهبته الاستثنائية في التمثيل والإخراج والتأليف، وتخرج متفوقًا، ليبدأ رحلة فنية مختلفة منذ اللحظة الأولى.
ثانيًا….المسرح… حجر الأساس في مسيرته
يُعتبر المسرح هو المجال الأهم والأقرب لقلب محمد صبحي، وقدّم من خلاله أعمالًا خالدة شكلت علامات فارقة في تاريخ المسرح العربي، من أبرزها:
انتهى الدرس يا غبي
الهمجي
تخاريف
وجهة نظر
لعبة الست
فارس بلا جواد
كارمن
اتسمت مسرحياته بالجمع بين الكوميديا الراقية والطرح الفلسفي العميق، حيث ناقش قضايا مثل الحرية، والعدالة، والفساد، والهوية، والانتماء، مستخدمًا أسلوبًا ساخرًا واعيًا بعيدًا عن الابتذال.
ثالثًا… الدراما التلفزيونية… فن برسالة
نجح محمد صبحي في تقديم أعمال تلفزيونية استثنائية، رسّخت مكانته كنجم صاحب قضية، ومن أبرز مسلسلاته:
يوميات ونيس (بأجزائه المتعددة)
سنبل بعد المليون
رحلة المليون
فارس بلا جواد
ويُعد مسلسل “يوميات ونيس” أيقونة درامية عربية، لما حمله من قيم أخلاقية وتربوية، وأسهم في إعادة الاعتبار لدور الأسرة والتربية السليمة في المجتمع.
رابعًا.. السينما… حضور نوعي ومختار
رغم قلة مشاركاته السينمائية مقارنة بالمسرح والتلفزيون، فإن اختياراته جاءت مدروسة، ومن أبرز أفلامه:
العميل رقم 13
أين عقلي
الكرنك (في بداياته)
وكان دائم التصريح بأن السينما التجارية لا تعبّر عن مشروعه الفني، مفضّلًا الجودة على الكم.
خامسا…محمد صبحي المفكر وصاحب الموقف
لم يكن محمد صبحي فنانًا تقليديًا، بل عُرف بمواقفه الجريئة تجاه:
1- رفض الإسفاف الفني
2- الدفاع عن اللغة العربية
3- نقد العولمة الثقافية
4- الدعوة إلى استقلال الفن عن رأس المال
5- دعم القضايا العربية والإنسانية
كما أنشأ مدينة سنبل للفنون، كمشروع ثقافي متكامل يهدف إلى إنتاج فن راقٍ يحترم عقل المشاهد.
سادسًا.. الجوائز والتكريمات
نال محمد صبحي العديد من الجوائز والتكريمات داخل مصر وخارجها، تقديرًا لعطائه الفني والفكري، واعتُبر في العديد من المهرجانات:
1- رائد المسرح العربي المعاصر
2- فنانًا صاحب مشروع ثقافي متكامل
وختاما…فإن الفنان محمد صبحي يمثل قيمة وقامة فنية استثنائية في تاريخ الإبداع المصري والعربي، حيث لم يكن مجرد ممثل أو مخرج، بل صاحب رسالة تنويرية واضحة، آمن بأن الفن مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون وسيلة ترفيه. وفي زمن تتراجع فيه القيم الفنية، يبقى محمد صبحي نموذجًا يُحتذى به، وصوتًا صادقًا يدعو إلى الحفاظ على هوية الفن ودوره الحقيقي في بناء الإنسان والمجتمع.
