د.نادي شلقامي
يُعد الشيخ مصطفى إسماعيل (1905–1978م) علامة فارقة في تاريخ تلاوة القرآن الكريم في العصر الحديث. لم يكن مجرد قارئ ذو صوت عذب، بل كان مدرسة نغمية متفردة استطاعت المزج بين أحكام التجويد وعلم القراءات وبين الإبداع في المقامات الموسيقية بفطرة نادرة. لُقب بـ “قارئ الملوك والرؤساء”، وترك إرثاً صوتياً ضخماً يتجاوز الـ 1300 تلاوة، ليظل صوته يصدح في إذاعات العالم الإسلامي كأحد أعمدة دولة التلاوة المصرية.
الموضوع: مسيرة الإبداع والتمكين.
أولا…النشأة والتكوين العلمي:
وُلد الشيخ في قرية “ميت غزال” بمحافظة الغربية، وحفظ القرآن في سن الثانية عشرة. صُقلت موهبته في المعهد الأحمدي بطنطا، حيث أتم تجويد القرآن وراجعه ثلاثين مرة على يد الشيخ إدريس فاخر وهو لم يتجاوز السادسة عشرة، مما منحه ثباتاً وتمكناً نادراً منذ صباه.
ثانيا… الانطلاقة الكبرى:
جاءت نقطة التحول في حياته من مدينة طنطا أثناء جنازة “حسين بك القصبي”، حيث قرأ أمام أعيان مصر وأعضاء الأسرة المالكة. وبثبات غريب، اعتلى “دكة القراءة” ليبهت الحضور بأدائه، ومن هنا بدأت شهرته تتجاوز حدود الأقاليم لتصل إلى القاهرة.
ثالثا… قارئ القصر والمحافل الدولية:
لعبت الصدفة دورها حين استمع إليه الملك فاروق عبر الراديو وأعجب بصوته، فأمر بتعيينه قارئاً للقصر الملكي قبل أن يُعتمد رسمياً في الإذاعة. لم يقتصر تأثيره محلياً، بل زار أكثر من 25 دولة، وقرأ في المسجد الأقصى مرتين (عام 1960 وعام 1977 رفقة الرئيس السادات).
رابعا… العبقرية الفنية (صوت وتفسير):
تميز الشيخ بقدرته على القراءة بأكثر من 19 مقاماً بفروعها، وكان يُعرف بـ “النفس الطويل”. لم يكن يغني بالقرآن، بل كان “يصور المعاني” بصوته، مستخدماً المقامات لاستحضار جلال الآيات وتبسيط تفسيرها في قلوب المستمعين.
خامسا…التكريمات:
تقديراً لعطائه، نال الشيخ أرفع الأوسمة، منها:
* وسام الاستحقاق من الرئيس جمال عبد الناصر.
* وسام الأرز من لبنان.
* وسام الامتياز (بعد وفاته) من الرئيس مبارك.
* أوسمة رفيعة من سوريا، ماليزيا، وتنزانيا.
وختاما… فقد جاءت نهاية حياة الشيخ مصطفى إسماعيل حافلة بالعطاء حتى اللحظة الأخيرة. ففي صباح يوم الجمعة 22 ديسمبر 1978، غادر منزله متوجهاً إلى دمياط لافتتاح “جامع البحر” بحضور الرئيس السادات، وكانت تلك تلاوته الأخيرة في الدنيا.
عقب عودته إلى فيلته بالإسكندرية، داهمه انفجار في المخ ودخل في غيبوبة دامت أياماً، ليرتقي إلى جوار ربه في صباح يوم الثلاثاء 26 ديسمبر 1978 عن عمر ناهز 73 عاماً. وبأمر من الرئاسة، أقيمت له جنازة رسمية مهيبة، ودُفن في قريته “ميت غزال” كما أوصى، تاركاً خلفه ثروة صوتية ستبقى خالدة ما بقي القرآن يُتلى في مشارق الأرض ومغاربها.
