كتب : جمال حشاد
يُعَدّ ضبط النفس والتحلّي بالحلم من أعظم القيم الإنسانية التي اتفقت عليها الأديان السماوية، إذ تشكّل السيطرة على الغضب أساسًا للتعايش السلمي وإشاعة الرحمة بين البشر. فالغضب الجامح يفتح أبواب العداوة والظلم، بينما يمنح الصبر وسعة الصدر للإنسان القدرة على بناء علاقات متوازنة وصحيحة مع نفسه والآخرين. ومن يتأمل نصوص الكتب السماوية يجد توجيهًا متكرّرًا بضرورة كبح الغضب والتحلّي بالأناة، لما لذلك من أثر مباشر على استقامة الفرد والمجتمع.
القرآن الكريم يولي قيمة الحلم وضبط النفس اهتمامًا بالغًا. فقد أثنى الله تعالى على المؤمنين بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134). يوضح هذا النص أن كظم الغيظ، أي حبس الغضب وعدم الانجرار خلف انفعالاته، علامة من علامات الإحسان ومحبة الله. كما حثَّ النبي محمد ﷺ في أحاديثه على أن القوة الحقيقية ليست في القدرة الجسدية بل في ضبط النفس عند الغضب، مؤكّدًا أن مقاومة الانفعال أسمى من أي قوة مادية. وهكذا يرسّخ الإسلام أن الغضب، إن لم يُضبط، يصبح بابًا للخطايا، بينما الصبر والعفو طريق إلى رضا الله وسمو الأخلاق.
كذلك تؤكد الأسفار المقدسة لدى اليهود والمسيحيين على قيمة الهدوء وكبح جماح الغضب. ففي سفر الأمثال من العهد القديم يرد: “البطيء الغضب خيرٌ من الجبّار، ومالك روحه خيرٌ ممن يأخذ مدينة”، وهو نص يبيّن أن ضبط النفس أعظم من أي نصر عسكري أو قوة جسدية. وفي العهد الجديد، يحذّر الرسول يعقوب من الانفعال قائلاً: “ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئًا في الغضب؛ لأن غضب الإنسان لا يصنع برّ الله” (رسالة يعقوب 1:19-20). هذه التوجيهات الإنجيلية تعكس إدراكًا عميقًا أن الغضب يُعمي البصيرة ويُبعد المرء عن السلوك الذي يرضي الله.
المتأمل في هذه النصوص يدرك أن الرسالة واحدة: الإنسان الذي يسيطر على مشاعره يحافظ على إنسانيته ويُصلح مجتمعه. فالغضب قد يدفع إلى العنف والانتقام، بينما ضبط النفس يفتح باب التسامح والإصلاح. وتشترك الأديان السماوية في أن الغضب ليس شعورًا مذمومًا في ذاته، إذ قد يكون رد فعل فطريًا على الظلم، لكن المرفوض هو الانسياق وراءه حتى يؤدي إلى قول أو فعل يفسد العلاقات أو يعتدي على الحقوق.
عندما يلتزم الأفراد بضبط النفس، ينعكس ذلك مباشرة على المجتمع. فالأسر التي يسودها التسامح والهدوء أكثر استقرارًا، والمجتمعات التي تربي أبناءها على كظم الغيظ أقل عنفًا وأكثر تماسكًا. كما يساهم هذا الخلق في حل النزاعات بطرق سلمية، ويغرس ثقافة الحوار بدلاً من الخصومة. ومن هنا يتضح أن دعوة الكتب السماوية ليست مجرد توجيه أخلاقي، بل هي منظومة وقائية لحماية المجتمعات من التفكك.
قدّم الوحي السماوي أيضًا إرشادات عملية تساعد على كبح الغضب؛ منها الاستعاذة بالله وذكره، كما أوصى النبي محمد ﷺ، أو الصمت والابتعاد عن المواقف المثيرة، أو اللجوء إلى الصلاة والتأمل كما يعلّم الكتاب المقدس. هذه الوسائل الروحية تدرب القلب والعقل على التوازن والسكينة.
إن دعوة الكتب السماوية لعدم الغضب وضبط النفس تمثل رسالة خالدة تتجاوز حدود الزمن والديانات، إذ تضع أساسًا لبناء إنسان متزن ومجتمع متراحم. وفي عالم اليوم، حيث تتسارع الأحداث وتشتد التوترات، تظل هذه الدعوة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فالتسامح والحلم ليسا مجرد فضائل فردية، بل هما صمّام أمان حضاري، يجمع القلوب ويمنع الانقسام، ويجعل من الإنسان مرآةً لرحمة الخالق وعدله.