بقلم: أحمد رشدي
في هذه السلسلة حاولنا أن نرسم ملامح طريقٍ واضحٍ للاستقامة، بدأناه بمحاسبة النفس، ثم الوقوف أمام الظلم، ثم الاستغفار، وبرّ الوالدين، وجبر الخواطر، والعمل بإتقان، ثم الصدق الذي لا تقوم الاستقامة إلا عليه.
واليوم نصل إلى خُلُقٍ جامعٍ لكل تلك المعاني، خُلُقٍ إن سكن القلب أزهرت به الحياة،
وإن غاب عنها قست النفوس وجفّت الأرواح، إنه حب الخير للناس.
حب الخير ليس خُلُقًا ثانويًا، ولا سلوكًا تكميليًا، بل هو مقياس صفاء القلب ونقاء النية،
وهو ثمرة الإيمان الصادق. فالإنسان الذي يحب الخير لغيره قد تجاوز حدود الأنانية، وارتقى بنفسه إلى مرتبة العطاء دون انتظار مقابل.
وقد ربط النبي ﷺ الإيمان الصادق بهذا المعنى حين قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، فجعل حب الخير للناس ميزانًا للإيمان، لا كمالًا زائدًا عنه.
وحين نتأمل القرآن الكريم نجد أن الله تعالى قد ربط الفلاح بالحب والبذل، فقال سبحانه: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، فالإيثار صورة راقية من صور حب الخير، حيث يتقدّم الآخر في القلب قبل النفس، لا ضعفًا بل سموًا، ولا خسارة بل رفعة. وقد فسر العلماء هذا المعنى بأن النفس إذا تدرّبت على حب الخير لغيرها تحررت من الشح، ومن شدة التعلق بالدنيا، وصارت أقرب إلى السكينة والرضا.
وحب الخير لا يقتصر على المال أو العطاء المادي، بل يتجلى في الكلمة الطيبة، والنصيحة الصادقة، والدعاء في الغيب، وكفّ الأذى، وحسن الظن، والفرح لفرح الآخرين دون حسد أو ضيق. وقد قال رسول الله ﷺ: “الدال على الخير كفاعله”، فكل من دلّ على خير، أو سعى في إصلاح، أو أعان على معروف،
نال أجرًا لا ينقص من أجر غيره شيئًا.
ويرى علماء النفس أن الإنسان حين يتمنى الخير لغيره، ويشاركهم نجاحهم بصدق، يتحرر من المقارنة المؤذية ومن صراعات الداخل، ويعيش حالة من السلام النفسي والاستقرار العاطفي، لأن الخير حين يُحب للآخرين يعود أثره على صاحبه طمأنينة وراحة واتزانًا. فالقلب لا يتسع للحسد وحب الخير في آنٍ واحد، ولا يجتمع فيه النقاء والغل.
وحين نتأمل واقع المجتمعات نجد أن أكثرها تماسكًا هو ما يسوده هذا الخلق؛
حيث يتعامل الناس بروح التعاون لا التنافس الأعمى، وبمنطق البناء لا الهدم، وبنية الإصلاح لا الإقصاء. فحب الخير ليس ضعفًا، بل قوة أخلاقية تحفظ التوازن، وتمنح الإنسان مكانته بين الناس بغير صخب ولا ادعاء.
استقيموا يرحمكم الله، فحب الخير طريق مستقيم إلى رضا الله، ومرآة صادقة لما في القلوب. من أحب للناس الخير أحبه الله، ومن سعى في نفع غيره فتح الله له أبوابًا لم يكن يتوقعها، وجعل أثره باقيًا بعد رحيله. فاجعلوا قلوبكم عامرة بحب الخير، تكن حياتكم أكثر صفاء، وأقرب إلى المعنى الذي خُلقتم من أجله.
