الأدب

قصة قصيرة: ليلة رعب في طرابلس ونور الأمل

بقلم: د. إيمان بشير ابوكبدة

دوّت أصوات الانفجارات في سماء مدينة طرابلس الهادئة، فزلزلت سكون الليل. مما أثار الهلع في قلوب أطفالي النائمين، فانتفضوا مذعورين من أسرتهم. في البداية، لم يفهموا ما يحدث من حولهم، لكن نظرات الخوف في عينيّ سرعان ما نقلت إليهم الرعب، وكأن شرارة خفية انتقلت من روحي المرتعبة إلى قلوبهم البريئة. 

أخذت أصوات المدفعية والرشاشات تزداد عنفًا وقربًا، تهز جدران البيت الهشة وتثير الغبار من السقف المتصدع. شعرت برجفة تسري في أجساد أطفالي الملتصقين بي، وكأنهم يستمدون بعض القوة من ضعفي. 

تسلل اليأس إلى قلبي وأنا أرى نظرات الفزع في عيونهم الصغيرة، تلك العيون التي لم تعرف في هذا البيت سوى الأمان بعد وفاة والدهم، رحمه الله. ها هو الآن يتحول في لحظات إلى مكان يهدد حياتهم. بين كل انفجار وآخر، كنت ألقي نظرة مذعورة حول الغرفة، أتفحص بتمعن الجدران المتصدعة والسقف الذي يكاد ينهار فوق رؤوسنا. كنت أبحث بعيني عن أي منفذ أو زاوية آمنة نلجأ إليها، لكن كل شيء حولي كان ينذر بالموت والدمار. فجأة، انقطع التيار الكهربائي، وعم الظلام الدامس المكان، ليعمق الرعب في هذا المشهد الكابوسي. لكن هذا الظلام، على وحشته، كان له وجه آخر؛ ففي خضم العتمة، شعرت بأيديهم الصغيرة تتشبث بملابسي بقوة أكبر، وكأنهم يجدون في قربي عزاءً وسندًا.

 

في هذا الظلام الحالك، وبين دوي الانفجارات وصوت البنادق الذي لا يهدأ، استجمعت قواي المتبقية. لم يكن أمامي خيار آخر سوى أن أكون قوية لأجلهم، وأن أخبئ خوفي العميق خلف قناعٍ من الثبات المصطنع. بدأت أتحدث إليهم بصوت هادئ: ما رأيكم أن أحكي لكم خرافة ليبية قديمة كانت جدتي، رحمها الله، ترويها لي قبل النوم؟ أومأوا جميعًا برؤوسهم موافقين.

 

فبدأت أروي خرافة أم الأبيار بصوتٍ فيه شيء من المرح، وحاولت أن أرسم على وجوههم الصغيرة ابتسامة باهتة تبدد ولو قليلًا من هذا الرعب المستشري. “أول ما نبدأ خرفتنا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كان يا ما كان… رجل اسمه مبروك وزوجته اسمها رقية، وكان لديهما أحد عشر ولدًا. كانوا يعيشون في البادية، وكانت المدينة بعيدة جدًا عنهم لدرجة أنهم لم يعرفوا حتى كيف يبدو شكلها… تغيرت الظروف وانتشر الفقر وبدأت الأمراض في كل مكان. فقرر مبروك الرحيل مع عائلته إلى المدينة، لعله يجد عملًا يعول به صغاره. جمعوا متاعهم واتجهوا نحو المدينة، وأول ما وصلوا إليها نصبوا خيمتهم وبدأوا في تثبيتها. جاء إليه سكان تلك المدينة قائلين: “ممنوع يا أخانا! أين تنصب خيمتك في المدينة؟ وماذا تفعل؟”

رد عليهم مبروك: “وأين أسكن أنا وأحد عشر ولدًا معي؟”

رد عليه أحدهم: “اذهب فاشترِ بيتًا أو استأجره، فالخيمة ممنوعة هنا.”

انزعج مبروك، وبحث مع عائلته عن إيجارات حول المدينة. وكلما سألوا أحدًا عن الإيجار، وجدوه باهظًا، فالسعر مرتفع جدًا.

بدأ اليأس يتغلغل في تلك العائلة وأخذ التعب منهم مأخذًا، وفجأة، وضع مبروك يده على رأسه وهو يفكر. أقبل عليه رجل وقال له: “أراك تبحث عن بيت والأسعار غالية.”

رد مبروك: “أجل والله يا أخي… أشهد بالله لا أقدر عليها.”

رد الرجل: “عندي استراحة في أطراف المدينة، والاستراحة فيها بيت كبير يكفيك أنت وصغارك. والحق أني أريد أن أؤجرها بسعر أرخص قليلًا من السوق.”

رد مبروك: “بارك الله فيك ورحم والديك، واعتبرني قد استأجرتها ما دامت أرخص من باقي الأماكن.”

رد الرجل: “لكن انتبه، ستسمع صوتًا في الليل يخرج من البئر، إياك أن تأتي جهته أو تقترب منه أنت ولا صغارك. تظاهروا بأنكم لا تسمعون شيئًا، لن يطلع الصبح وبعدها سيسكت الصوت وافعل ما تشاء.”

أخذ مبروك يفكر وينظر إلى صغاره وإلى زوجته رقية والتعب والهم والفقر ينال منهم نصيبًا. ابتسمت له رقية وقالت له: “توكل على الله يا مبروك، ما نحن خائفين من شيء.”

التفت مبروك إلى الرجل وقال له: “موافق، المهم أن نسكن.”

تفاهم هو والرجل على الإيجار. واتجه مبروك وعائلته وساروا إلى الاستراحة. وما إن دخلوها حتى غمرتهم الفرحة بالبيت. لقد كان قصرًا بحق، لا مجرد بيت. كان الأثاث فيه فخمًا والغرف واسعة، والصغار يلعبون ويركضون غير مصدقين سعادتهم.

أخذ مبروك ينظف الحديقة، بينما تمسح رقية الغبار عن الأثاث، والعائلة بأكملها تتحرك بنشاط، والسعادة تكاد تفيض من عيونهم. انقضى النهار وحل المغرب، فتجمعوا جميعًا في غرفة واحدة، وجلبت رقية المبكبكة، وانقضوا عليها أكلًا حتى لعقوا القصعة، وبعدها صلوا العشاء، ومن شدة التعب اتجه كل منهم إلى فراشه. حقًا لقد سقطوا من الإرهاق كالثمر الناضج بعد ذلك اللهو والجري.

وبعد أن ناموا جميعًا، وفي منتصف الليل، استيقظت رقية على صوت امرأة تصرخ وتنوح على أيامها الحالكة.

رقية: “انهض يا مبروك انهض، هناك امرأة تصرخ في الخارج.” فرد عليها مبروك: “يا ساتر! تعالي يا رقية لنرى ما الأمر.”

خرج الاثنان يركضان حتى وصلا إلى مدخل الباب، ففتحاه ونظرا يمينًا ويسارًا فلم يجدا أحدًا. رقية: “الصوت قادم من البئر، ربما سقطت فيه امرأة وتطلب المساعدة للخروج.” فرد مبروك: “هذا الصوت ليس بعيدًا عن الذي أخبرنا عنه الرجل. اتركيها يا امرأة وشأنها، وادخلي نامي، يبدو أنها غولة. نحن في حال وهي في حال آخر، والله ورسوله بيننا وبينها.”

عاد مبروك ورقية إلى النوم، لكن قلب رقية الطيب والرقيق لم يقتنع بأن الصوت صادر عن غولة. وجلست تحدث نفسها قائلة: “لم نرَ غولة في البادية، فهل سنراها في المدينة؟”

تركت مبروك يعود إلى النوم. ووضعت رداءها وخرجت جهة البئر، وكلما كانت رقية تقترب كان الصوت يزداد أكثر فأكثر حتى وصلت إلى البئر.

انحنت على البئر تريد أن ترى ما فيه، وفجأة تخرج لها غولة سوداء وشعرها يتدلى أمام وجهها، طارت إلى الأعلى ثم نزلت بسرعة وجلست بجانب رقية.

شعرت رقية بالخوف الشديد حتى تجمدت في مكانها، وكانت تلك الغولة ترمقها من أعلى إلى أسفل. وفجأة بدأت الغولة تتحدث قائلة: “كان يحبني”، فردت رقية برهبة: “آآآآه، كان”. وعادت الغولة لتقول: “كان يدللني”، فأجابت رقية: “نعم، كان.”

ومرت ساعتان على هذا الحال وتلك الغولة تبكي وتندب وتعاود في نفس الكلام ورقية من الخوف ترد عليها.فجأة، تعبت الغولة وسكتت تمامًا، ولم تعد تنطق بكلمة. نظرت إليها رقية وشعرت بأن الخوف قد تبدّد، بل استبدلت مشاعرها بالشفقة والإحساس بالظلم تجاهها، حتى ذرفت دموعًا. ثم بدأت تسألها بلطف: “يا غولة، ما الذي أصابك؟ لماذا هذا البكاء والنواح والعويل؟ أخبريني، لعلّي أستطيع مساعدتك.” صمتت الغولة هنيهة، وقد أدركت طيبة رقية، وبعد أن اطمأنت إليها، شرعت الغولة في سرد قصتها لرقية.”

وقالت: “أنا كنتُ ابنة تاجر لا تفنى أمواله، وكان أبي يحكم ويقضي والناس مصطفون صفوفًا ليُسلِّموا عليه. وكان لدينا الكثير من الخدم والحشم، ومن بينهم كان هناك خادم لسانه حلو جدًا ومن كلامه الحلو أحببته. وطلبت من أبي أن يوافق على زواجي به. فوافق أبي وتزوجنا وكان كلامه معي كله حلوًا ويعاملني بحب ويدللني، ماذا أريد أكثر؟ ومن شدة حبه لي حتى أبي لاحظ هذا الشيء فزادت ثقة أبي به أكثر فأكثر وأعطاه الكثير من المال فتحول من خادم إلى أمير وتاجر كبير. بعد فترة توفي أبي، مرت أيام وأسابيع وشهور وكل يوم بدأت ألاحظ أن الرجل بدأ يتغير عليّ. وبدأ كلامه الحلو يقل ولم يعد يدللني وذهب ذلك الحب كله. ومرة مرة يأتيني ويقول لي: أعطيني الأوراق الخاصة بميراث أبيك لأن لدي بها عملًا. قلت لا بأس سأماشيه وأعطيه الأوراق، لكن المشكلة أن أبي لم يذكر أين الأوراق عندما توفي، وكلما بحثت لم أجدها. ولما قلت له لم أجد الأوراق الخاصة بميراث أبي زاد كرهه لي في أحد الأيام، وبينما كنت أنزل الدرج،صُدمت عندما سمعته يتحدث مع إحدى الخادمات بودٍّ عميق يُشير إلى علاقة قديمة، بل أسبق من زواجي به، وكأن الأمر كان مُدبَّرًا ومُحاكًا بدقة. لم أتحمل الموقف، فجلست أصرخ عليه بصوت عالٍ. وفجأة، أقبل عليّ راكضًا وضربني بسكين في قلبي حتى سال دمي وهو يطعنني بسكينه مرارًا. ويقول: “بدون أوراق الميراث، أصبح كل شيء لي”، وبعدها قطعني أشلاء وألقى بي في هذا البئر. منذ ذلك اليوم وأنا أخرج لأندب الحب الذي كان بيني وبينه، ولست قادرة على نسيان حلاوة أيامي معه. مع أني لو نسيت، ستزول اللعنة من عليّ، ولن أعود أخرج لأحد، ولن أعود غولة.”

تأثرت رقية بشدة لما سمعت، ولم تتخيل وجود هذا القدر من الشر في قلوب بعض الناس. لقد آلمتها قصة الغولة المسكينة. فقالت: “يا غولة، تذكري أفعاله الشريرة وما كان يفعله بكِ، وهذا سيُنسيكِ ألمه. وقولي: يا رب، خذ من قلبي شيئًا وضع شيئًا”

سمعت الغولة تقول: “يا رب، خذ من قلبي شيئًا وضع شيئًا”، بدأ شكلها يتحول كالنور ووجهها يُضيء أبيض كالقمر. نظرت إلى رقية وقالت لها: “(الذهب لا يأكله الصدأ)”. أما الأوراق الخاصة بميراث أبي، فكلها كانت مدسوسة تحت ساقية البئر. وهذه قصتي كتبتها في ورقة، فخذيها إلى محامي أبي، ستجدينه في المكان الفلاني. أعطه الورقة واشرحي له قصتي وقولي له: “عظامي ما زالت في البئر وسكينه مغروس في قلبي ليأخذ عقابه”. وأنت يا رقية، ها هي الأوراق الخاصة بميراث أبي كلها عندك، فاذهبي عيشي أنت وصغارك وزوجك الطيب. لا تخونيه ولا يخونكِ.”

كلما حكيت جزءًا من الخرافة، أتوقف لأتحسس وجوههم وأقبل جباههم المرتعشة، وأهمس في آذانهم كلمات طمأنينة كاذبة، كلمات لم أكن أصدقها أنا نفسي. كنت أردد على مسامعهم أن هذا الضجيج سينتهي قريبًا، وأن الصباح سيأتي ومعه الأمان والسلام. لكن قلبي كان يعتصر ألمًا في كل مرة أنظر إلى عيونهم التي تنطق سؤالًا صامتًا: “متى يا أمي سينتهي هذا الكابوس؟”. اغرورقت عيناي بالدموع، فشعرت بيد ابنتي الكبرى، مريم، تمسك بيدي بقوة. نظرت إليها فرأيت في عينيها الصغيرتين شجاعة لم أعرفها من قبل. همست بصوت خافت لكنه واثق: “يا أمي، لا تخافي، سنجد طريقًا للنجاة كما في خرافة أم الأبيار”. 

“نعم يا حبيبتي، سنخرج من هذا الجحيم ونعود إلى حياتنا، وسيعود صراخك أنت وإخوتك ليملأ يومي.” أجبت بضحكة تخفي حزنًا عميقًا. 

في زاوية الغرفة، مرت علينا ساعات ثقيلة كأنها دهر، بينما كنا مختبئين. كان صوت الانفجارات يخفت ويعلو، يقترب ويبتعد، تاركًا وراءه صدى مرعبًا في قلوبنا. ومع كل صوت جديد، كانت أجساد أطفالي تنتفض، وتشتد قبضتهم على ملابسي. 

ضغطت بقبضتي على قلبي محاولة إسكات خفقاته المتسارعة، فجأة وبينما كنت أتمتم بدعاء خافت إلى الله أن يزيح هذه الغمة وينجينا سالمين، توقفت الأصوات التي كانت تعبث بأعصابنا للحظات.

تسلل شعاع خافت من نور الفجر عبر ثقوب الجدران المتصدعة، ليضفي على الغرفة منظرًا كئيبًا، لكنه في الوقت نفسه، بث في قلبي بصيصًا من الأمل. نهضت بحذر شديد، وكأنني أخشى أن توقظ حركتي هذا الهدوء الهش الذي خيم على المكان.

خطوت خطوات متعبة نحو الباب المتهالك، وأصغيت بكل حواسي. لم يكن هناك أي صوت يدل على استمرار القتال. ترددت لحظة، ثم فتحت الباب ببطء شديد، وأطللت برأسي إلى الخارج.

كان محيط منزلنا يبدو وكأنه خرج من زلزال مدمر. سيارات محترقة ومتفحمة، أنقاض متناثرة في كل مكان، وآثار دماء تلطخ الأرض. صمت مطبق يلف المكان، صمت أثقل من دوي الانفجارات التي هزتنا طوال الليل. بخطوات حذرة، رجعتُ إلى الغرفة ونظرتُ إلى طفليّ. أخيرًا، استسلمت أجسادُهما الصغيرة للإرهاق الذي خلفته ليلةٌ مرعبة. جلستُ بجانبهما، أتأمل ملامحهما الملائكية، وأنا أردد في داخلي دعاءً صامتًا بأن يحفظهما الله ويبعد عنهما وعن هذه البلاد المزيد من ويلات الحروب الأهلية التي بدأت منذ ثلاثة عشر عامًا.

بعد قليل، بدأت أصوات الحياة تعود تدريجيًا إلى الحي. سمعت أصوات همسات خافتة وأصوات أقدام تتحرك بحذر في الخارج. علمت أن الجيران بدأوا يخرجون من مخابئهم، يتفقدون أحوالهم وأحوال بيوتهم. أيقظت أطفالي برفق. فتحوا عيونهم ببطء ونظروا إليّ بعيون غائرة مثقلة بالنوم والخوف. احتضنتهم بقوة، وشعرت بارتياح عميق لكونهم بخير.

“هيا يا أحبائي، لقد هدأ كل شيء الآن. سنخرج لنرى ما حدث.” قلت لهم بصوت حاولت أن يكون واثقًا.

خرجنا من البيت بحذر، وأمسكت بأيديهم الصغيرة بقوة. كانت نظراتهم تتنقل بين الخراب والدمار الذي حل بمنطقتنا الهادئة. لم ينطقوا بكلمة، لكن نظراتهم كانت تسأل أكثر مما تستطيع الكلمات أن تعبر عنه. في تلك اللحظة، أدركت حجم الكارثة التي حلت بنا. لكن في الوقت نفسه، شعرت بقوة جديدة تنبع من داخلي، قوة تدفعني لحماية أطفالي، ولإعادة بناء حياتنا من جديد، مهما كانت الصعاب. ففي عيونهم الصغيرة، رأيت الأمل يولد من رحم الألم، ورأيت إصرارًا على الحياة أقوى من كل أصوات المدافع والانفجارات بين أبناء الوطن الواحد. ويوما ما ستعود طرابلس عروس البحر الأبيض إلى بهائها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى