بقلم … أحمد رشدي
يقولون إن المرآة لا تكذب،
لكني لم أكن واثقًا من ذلك أبدًا.
كنت أنظر إلى وجهي كل صباح فأرى رجلًا آخر، يشبهني في الملامح، لكنه ليس أنا. عيناه تلمعان بشيء لا أفهمه، وابتسامته تأتي قبل أن أبتسم بثانية واحدة.
نعم، ثانية واحدة… كأن صورتي هناك ليست انعكاسًا بل مخلوقًا يحاول مجاراتي، يتعلم مني ببطء، أو ربما ينتظر لحظةً ما.
كنت رجلًا عاديًا إلى أن بدأت ألاحظ التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد. تلك الشكة البسيطة في مؤخرة الرأس حين تقف أمام المرآة طويلًا، أو ذلك الإحساس الخفيف بأن الهواء خلفك يتحرك.
كان بيتي صغيرًا في حي هادئ، يعيش فيه الناس حياة رتيبة تافهة، وأنا كنت أكثرهم مللًا. لكن الملل ذاته أحيانًا يُخرج الجنون من مكمنه.
في البداية كانت مجرد مصادفة. أُطفئ النور وأستدير، فأرى في انعكاس المرآة أن الرجل هناك لم يتحرك بعد. أقسم أنني رأيته واقفًا بينما أنا أدرت ظهري بالفعل. ضحكت من نفسي، وقلت إن الإرهاق يصنع الخدع. لكن في الليلة التالية، كنت أغسل وجهي، رفعت رأسي لأراه ينظر إليّ بحدة غير طبيعية، كأنه غاضب مني. لم أكن قد فعلت شيئًا يستدعي الغضب، سوى أنني كنت موجودًا.
بدأت الأمور تتطور. كلما نظرتُ إلى المرآة، كان هو أكثر ثقةً، أكثر جرأة. بدأ يبتسم بسخرية حين أرتعب، ثم يعبس حين أحاول التجاهل. لم أكن أصدق أن الجنون قد يصل إلى هذا الحد، لكنّ النوم صار عدوّي، والمرايا في كل مكان تراقبني كأنها عيون مفتوحة على عوالم أخري.
قررت أن أغطي جميع المرايا في البيت، كل واحدة بقطعة قماش سوداء. شعرت براحة غريبة بعدها. لكن بعد أيام قليلة، بدأت أسمع همسات.
صوتي… نعم صوتي، لكنه يأتي من خلف القماش. يقول أشياء أعرفها عن نفسي. يسرد ذكرياتي بتفاصيلها الدقيقة، ثم يغيّر النهاية قليلًا. مثلًا، بدلًا من أن يتذكر يوم تخرجي، يتحدث عن يومٍ آخر لم أعشه أبدًا… يوم سقطت فيه من على المسرح ومِت.
في تلك الليلة لم أتحمل. مزقت القماش عن المرآة الرئيسية في غرفة النوم. كنت أتوقع أن أرى نفسي مذعورًا، لكن الرجل هناك لم يكن خائفًا على الإطلاق. كان يقف بثبات، ينظر إليّ كمن رأى هدفه أخيرًا. ثم رفع يده ببطء… أنا لم أفعل.
رفعها هو وحده.
تجمدت الدماء في عروقي.
ثم ابتسم.
ولوهلة ظننت أن الزجاج تحرك فعلًا.
لم أستطع النوم بعدها.
بدأت أعيش في بيتٍ بلا مرايا. لكن شيئًا ما تغيّر فيّ. الناس صاروا يلاحظون غرابة في تصرفاتي. زميلي في العمل قال إنني لم أعد أبتسم أبدًا. جارتي العجوز أقسمت أنها رأتني من نافذة غرفتي أتحدث مع نفسي وأنا أنظر إلى الحائط. المشكلة أني لا أتذكر شيئًا من ذلك.
مرّ أسبوع كامل وأنا أحاول تجاهل كل شيء. حتى صباح اليوم، حين استيقظت ووجدت ورقة صغيرة موضوعة أمام السرير. كانت مكتوبة بخط يدي تمامًا. مكتوب فيها:
“أخيرًا خرجت من هناك… شكرًا لأنك تركت النور مطفأ.”
لم أفهم. ذهبت إلى الحمّام وأنا أرتجف. الضوء كان مطفأ بالفعل، لكني أشعلته على الفور.
المرآة… كانت نظيفة كما لم تكن من قبل.
والوجه الذي فيها… كان يبتسم.
ابتسامة لم أرها على وجهي يومًا.
جلست أمامها طويلًا، لا أدرى من فينا الأصلي ومن النسخة.
ربما أنا الذي خرجت من المرآة منذ زمن وأنا لا أدرى.
وربما الآخر هناك هو الذي يعيش حياتي الآن.
لكن في تلك الليلة قررت أن أنهي الأمر تمامًا.
أخذت مطرقة ثقيلة من المخزن، وقفت أمام المرآة التي بدأت منها القصة، وقلت له بصوتٍ مرتعش:
“انتهى كل شيء.”
لكنه لم يتحرك.
ابتسم بهدوء، ثم رفع رأسه قليلًا كأنّه ينصت إلى شيء ما خلفي.
قال بصوتي:
“هل تظن أنك أنت الذي تكسرني؟”
ثم انطفأ النور.
ضربت الزجاج بكل قوتي.
تناثرت الشظايا في كل مكان، وأحسست بدمٍ دافئ على وجهي.
لكن حين أضاء النور فجأة… لم أكن في الغرفة.
كنت في مكانٍ آخر تمامًا.
غرفة تشبه غرفتي، لكنها مقلوبة الاتجاه. كل شيء فيها معكوس، حتى الساعة تدور عكس الزمن.
على الحائط المقابل، كانت هناك مرآة…
وفيها رجلٌ يقف مذهولًا. كان يشبهني إلى حدٍّ مرعب.
ينظر إليّ من خلف الزجاج وهو يصرخ:
“اتركني أخرج! أنا الحقيقي! صدقني!”
اقتربتُ منه ببطء، نظرتُ في عينيه طويلًا…
ثم ابتسمت.
مددت يدي نحو الزجاج، لمسته… فكان دافئًا كجلد إنسان.
قلت له وأنا أضع يدي على كتف المرآة من الداخل:
“الآن دورك أن تبقى هناك.”
ثم ابتعدت بخطواتٍ ثابتة.
وبينما كنت أغادر الغرفة، نظرت مرة أخيرة إلى الزجاج المكسور المتناثر في الأرض…
كانت كل قطعة منه تعكس وجهًا مختلفًا لي،
كل وجهٍ يبتسم بطريقة لا تشبه الأخرى.
في الخارج، كان الليل ساكنًا تمامًا،
لكن حين مررت بجانب نافذة الجيران… رأيت في زجاجها رجلًا يحدّق بي من الداخل.
ابتسم.
ورفع يده ببطء.
هذه المرة…
لم أرفعها أنا.
يقولون إن المرايا خُلقت لتُظهر الحقيقة،
لكني لم أعد أؤمن بالحقيقة أصلًا.
ربما نحن جميعًا نسخ خرجت من زجاجٍ قديم، نحيا حياةً ليست لنا، ونخاف أن يأتي يومٌ يُطفأ فيه النور… فيخرج أحدهم من الجانب الآخر.
..داخل الزجاج…
، كل شيء بارد وساكن. الألوان باهتة، والصوت لا يتجاوز همسًا خافتًا. أنا أقف هنا، أشاهد “نفسي” يغادر الغرفة… يبتسم في زجاج الجيران… ويعيش حياتي. لم يعد يبتسم أبدًا مثلما كنت أفعل، لكن الناس يحبونه أكثر.
المشكلة الحقيقية ليست أنني علقت هنا… المشكلة هي أنني كلما نظرت إلى الشظايا المكسورة حولي، أرى وجوهًا أخرى، عشرات الوجوه، كلها نسخ مني.
جميعها تنتظر.
الآن، حين أصرخ، لا يسمعني أحد.
لا يسمعني إلا انعكاسي أنا…
الذي يبتسم في الخارج.
