بقلم السيد عيد
حين تُفتح أبواب المكتبة القديمة، لا يخرج الغبار وحده من بين المفاصل الخشبية المتآكلة، بل تتسرّب أعمار كاملة لم تُعش، وأحلام جفّ حبرها قبل أن تجد قارئًا. الغبرة هنا ليست أثر زمنٍ مرّ، بل شاهد إدانة على زمنٍ أُهمل، على ذاكرة أُحرقت ببطء حتى صارت رائحة، تُستنشق أكثر مما تُقرأ.
الدخول إلى تلك المكتبة يشبه الدخول إلى صدر إنسانٍ عجوز، كل نفسٍ فيه حكاية مبتورة، وكل صمتٍ فصلٌ حُذف من كتاب الحياة. كأنك لا تمشي في ممرات، بل تعبر داخل عقولٍ أُغلقت طويلًا، فتعفّن فيها السؤال، ونامت الإجابة وهي واقفة.
رسائل أكلتها النار، لا لأنها كانت خطيرة، بل لأنها كانت صادقة. النار لا تكره الورق، بل تخشى المعنى. الأصوات التي يبكي فيها الحبر بلا دموع هي أصوات أولئك الذين كتبوا ليُنجوا أنفسهم، لا ليُرضوا أحدًا، فكان مصير كلماتهم أن تُدفن حيّة. الحبر حين يبكي، لا يحتاج عينًا، يكفيه أن يُمنع من الوصول.
في الجناح الأول، كراسي الملوك مصطفّة في وقارٍ كاذب. جلست طويلًا تحت أجسادٍ ظنّت الخلود وظيفة، لا وهمًا. الكراسي تعرف الحقيقة أكثر من الجالسين عليها؛ تعرف أن كل جلوسٍ يطول أكثر من اللازم، ينتهي بسقوطٍ لا يليق. الملوك هنا ليسوا أشخاصًا فقط، بل أفكارًا تسلّطت، ومعتقدات اعتلت، وأصنامًا صنعناها بأيدينا ثم خفنا أن نكسرها. أوراقهم ذبلت لأنهم نسوا أن الشجرة لا تعيش إن ظنّت نفسها السماء.
أما الجناح الثاني، فهو أكثر قسوة. أصفاد الصمت ليست حديدًا، بل خوفًا. قيّدت ألسنة الشعراء، لا لأنهم قالوا ما لا يجب، بل لأنهم قالوا ما يجب في وقتٍ لا يُسمح فيه بالصدق. أُطفئت نيران الحروف في أفواههم، فصار الكلام جريمة، والصمت فضيلة مزيفة. هنا تفهم أن أخطر ما يُصادر في الأمم ليس الخبز ولا الأرض، بل الصوت. حين يُكمم الشعراء، يتلعثم التاريخ.
الممرات الطويلة بين الجناحين ليست فراغًا معماريًا، بل زمنًا ضائعًا. تلك المسافة هي سنوات التردد، والخوف من الاختيار، والوقوف على الحافة دون قفز. كم من إنسانٍ عاش هناك، لا ملكًا ولا شاعرًا، فقط شاهدًا صامتًا على حريقٍ لم يُطفئه ولم يشعله، لكنه دفئه.
وعند نهاية الممر، لا تمثال، ولا كتاب مقدّس، بل صندوق مفتوح. الصناديق المغلقة تثير الفضول، أما المفتوحة فتثير الرعب. الورقة الصغيرة التي تطفو فوقه لا تحتاج شرحًا ولا حاشية:
«أخطر الأسرار حياتك التي لم تعشها».
ليست الأسرار في ما نخفيه عن الآخرين، بل في ما نخفيه عن أنفسنا. الحياة التي لم نجرؤ على عيشها، القرارات التي أرجأناها حتى انتهت صلاحيتها، الكلمات التي ابتلعناها فسمّمتنا من الداخل. ذلك هو السر الذي لا يُغفر، لأنه بلا شهود ولا محاكم، فقط ضمير يطرق في الليل ولا يجد بابًا يُفتح.
المكتبة القديمة ليست مكانًا، بل مرآة. كل واحدٍ منّا يملك نسخة منها في داخله. فيها كراسي جلسنا عليها أكثر مما يجب، وأصفاد صمت رضينا بها بحجة السلامة، ورسائل أحرقناها قبل أن تصل. والغبرة التي تتصاعد كلما فتحنا باب الذاكرة، هي غبار الأعذار.
الخروج من المكتبة لا يعني نسيانها، بل الاعتراف بها. أن نقرأ ما تبقى، وأن نكتب من جديد، ولو على هوامش محترقة. ربما لا نستطيع إنقاذ الكتب التي أكلتها النار، لكننا نستطيع أن نمنع احتراق ما لم يُكتب بعد.
لأن أخطر الأسرار، فعلًا، ليست تلك التي نخشى كشفها…
بل تلك التي نكتشفها متأخرين، حين لا يبقى من الحياة إلا فهرس.
