بقلم: أحمد رشدي
تحلّ ذكرى ميلاد المفكر الكبير مصطفى محمود، ذلك الاسم الذي لم يكن مجرد طبيب أو كاتب، بل كان مشروعًا فكريًا متكاملًا، ورحلة عقل وقلب عبرت بين المعمل والمسجد، وبين السؤال والإجابة، وبين القلق والطمأنينة.
رجلٌ اختار أن يسير عكس التيار، فصار علامة فارقة في تاريخ الفكر العربي الحديث،
وصوتًا لا يخبو مهما تعاقبت الأجيال.
لم يكن مصطفى محمود من أولئك الذين يكتفون بالموروث، ولا من الذين يلهثون خلف الشك لمجرد الهدم، بل كان باحثًا حقيقيًا عن المعنى، آمن بأن العقل هبة إلهية لا تُعطَّل، وبأن الإيمان لا يكتمل إلا حين يمرّ عبر بوابة التساؤل.
ومن هنا جاءت فرادته، إذ جمع بين العلم والمعرفة الأدبية، وبين الفلسفة والدين، دون أن يقع في فخ التعارض أو الادعاء.
وبرنامجه الشهير «العلم والإيمان» لم يكن مجرد تجربة تلفزيونية ناجحة، بل كان حالة ثقافية متكاملة، أعادت صياغة علاقة الإنسان بالكون من حوله، وقدمت العلم في ثوب روحاني، والدين بلغة عقلانية هادئة. وما زالت حلقاته حتى اليوم تُشاهد بشغف، في دلالة واضحة على أن الفكرة الصادقة لا تشيخ، وأن الخطاب النابع من الإخلاص يتجاوز حدود الزمن.
ترك مصطفى محمود خلفه إرثًا فكريًا ضخمًا تجاوز تسعة وثمانين كتابًا، تنوعت بين الفلسفة والدين والسياسة والأدب وعلم النفس والرحلات، فكتب بلغة جذابة لا تخلو من العمق، وبأسلوب يجمع بين السلاسة والدهشة.
من «لغز الموت» إلى «أينشتاين والنسبية»، ومن «القرآن محاولة لفهم عصري» إلى «رحلتي من الشك إلى الإيمان»، ومن «الله والإنسان» إلى «حوار مع صديقي الملحد»، كانت كتاباته انعكاسًا لصراع داخلي نبيل انتهى إلى يقين متزن لا يعرف التعصب ولا الادعاء.
لم يكن مصطفى محمود داعية تقليديًا، ولا فيلسوفًا منغلقًا في برج عاجي، بل إنسانًا عاش قلق الأسئلة، وكتب بصدق التجربة، وتحوّل فكره إلى جسر عبرت عليه أجيال كاملة نحو وعي أعمق بالدين والحياة والذات. ولذلك ظل حضوره حيًا، لا باعتباره ذكرى،

بل باعتباره صوتًا ما زال يهمس في وجدان القارئ فكّر… ثم آمن.
وفي ذكرى ميلاده، لا نستعيد سيرة رجل فقط، بل نستدعي رحلة عقلٍ شجاع آمن بأن الحقيقة لا تُورث، بل تُكتشف، وأن الإيمان الحق لا يخشى السؤال، بل يولد منه.
