مقالات

الإعلام وصناعة الوهم: بين المثالية المصطنعة والحقيقة الصادمة

د/حمدان محمد

دائمًا ما تحاول وسائل الإعلام ترسيخ صورة معينة عن بعض الفنانين والفنانات، فتُقدِّمهم للمجتمع على أنهم القدوة والمثل الأعلى، بل وتضعهم في خانة الصفوة من حيث الأخلاق والرقيّ. تُبهرنا البرامج التلفزيونية بمثالية زائفة، تُظهر هؤلاء الأشخاص وكأنهم أصحاب رسالة سامية وأخلاق حميدة. لكن ما إن تتاح لهم فرصة الحديث بحرية، حتى نجد أنفسنا أمام صورة مختلفة تمامًا، مليئة بالشتائم والإهانات التي تكشف الحقيقة المغايرة لما يتم تسويقه للجمهور.

فمنذ عقود، والإعلام يكرّس صورة معينة للفنانين، يصوّرهم على أنهم رسل الثقافة والتنوير، ويُصدِّر للمجتمع فكرة أنهم عنوان الرقيّ والتحضر. تُفتح لهم أبواب التكريم، ويُحتفى بهم وكأنهم النموذج الأسمى الذي يجب أن يُحتذى. ولكن عند أول اختبار حقيقي، نجد أن كثيرًا منهم يستخدم لغةً تفتقد لأبسط معايير الذوق والأخلاق. فكيف يمكن لمن يُقدَّم كقدوة أن يكون في لحظة غضب مصدرًا للإسفاف والانحدار اللفظي؟

والأدهى من ذلك أن بعض هؤلاء المشاهير لا يترددون في استخدام ألفاظ خادشة ومهينة حتى في الحوارات التي تُعرض على القنوات الفضائية، دون مراعاة لحرمة البيوت أو مشاعر المشاهدين. وكأن الأخلاق أصبحت مجرد قناع يرتدونه أمام الكاميرا، ثم يسقط عند أول موقف يخرجهم عن هدوئهم المصطنع.

ولا يمكننا إلقاء اللوم بالكامل على هؤلاء المشاهير، فالإعلام هو شريك أساسي في هذه الظاهرة، حيث يتعمد الترويج لشخصيات لا تستحق أن تكون في موقع القدوة، متجاهلًا العلماء والمفكرين وأصحاب القيم الحقيقية. فمن النادر أن نجد الإعلام يحتفي بعالم قدم للبشرية إنجازًا عظيمًا، بينما يفتح الأبواب على مصراعيها لمن يصرخون ويشتمون في البرامج الحوارية، بل ويتم استقبالهم مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن!

والمجتمع أيضًا يتحمل جزءًا من المسؤولية، إذ أصبح البعض يُمجّد هؤلاء الأشخاص رغم سلوكهم غير اللائق، ويستمر في متابعتهم ودعمهم، مما يمنحهم شعورًا زائفًا بالحصانة ضد النقد والمحاسبة.

ولكن إلى أين نحن ذاهبون؟

إن استمرار هذه الظاهرة دون تصحيح سيؤدي إلى خلل خطير في المنظومة القيمية للمجتمع، حيث يصبح المقياس الحقيقي للشهرة هو الضجيج والإثارة، وليس الأخلاق والعلم والعمل الجاد.

لذلك، نحن بحاجة إلى ثورة في المفاهيم الإعلامية، وإلى إعادة الاعتبار للأشخاص الذين يمثلون القيم الحقيقية للمجتمع. فالمجتمعات لا تبنى على مظاهر زائفة، بل على نماذج حقيقية قادرة على إلهام الأجيال القادمة بالعلم والأخلاق والاحترام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى