التلاعب النفسي بالمشاعر: الوجه الخفي للهيمنة العاطفية

كتبت / سالي جابر – أخصائية نفسية
في العلاقات الإنسانية، يُفترض أن تُبنى الروابط على الصدق، والاحترام، والمشاركة المتوازنة. غير أن الواقع لا يخلو من علاقات يشوبها الخلل، يتجلى أحيانًا في سلوكيات خفية تُعرف بـ”التلاعب النفسي بالمشاعر”. وهو سلوك لا يُمارَس بالضرورة عن وعي كامل، لكنه يخلّف آثارًا نفسية عميقة على الضحية، قد تستمر لسنوات دون إدراك واضح للمصدر الحقيقي للألم.
ما هو التلاعب النفسي بالمشاعر؟
التلاعب النفسي هو محاولة خفية للسيطرة على مشاعر شخص آخر، وتوجيه ردوده وسلوكياته لصالح الطرف المتلاعب، عبر وسائل غير مباشرة، مثل:
-الذنب المُصطنع
-الإشعار بالذنب أو القصور
-اللوم المقنّع
-الانسحاب العاطفي
-التقليل من المشاعر (أنت حساس/ة زيادة)
-التناقض المقصود في الأقوال والأفعال
الهدف من هذا التلاعب ليس دائمًا واضحًا؛ فقد يكون بدافع الخوف، أو الحاجة للسيطرة، أو ضعف إدراك المتلاعب لحدوده مع الآخرين.
أنواع التلاعب النفسي العاطفي:
1- اللعب على وتر الذنب:
حين يُقنع المتلاعب الضحية بأنها مسؤولة عن مشاعره السلبية أو ظروفه الصعبة، كأن يقول:
“لولاك لما كنت تعيسًا هكذا.”
الهدف هو خلق شعور دائم بالذنب يدفع الضحية للبقاء، أو تقديم تنازلات.
“أنا تعبان علشانك، وكل اللي بعمله عشانك، ومش لاقي منك غير البرود!”
الهدف: جعل الطرف الآخر يشعر بالذنب، فيضطر لتقديم تنازلات.
2-التقليل من المشاعر أو الإنكار العاطفي:
يُستخدم هذا الأسلوب لتهميش مشاعر الآخر، عبر تعبيرات مثل:
“أنت تبالغ في كل شيء”
“هذا لا يستحق كل هذا الانفعال”
فيشعر الشخص بأن إحساسه غير مشروع، أو أنه غير مفهوم.
3- الانعزال العاطفي المتعمّد (الصمت العقابي):
هو الامتناع المتعمد عن التواصل أو التعبير، للضغط على الطرف الآخر، ودفعه للشعور بالذنب، أو لإظهار “تفوق” المتلاعب أخلاقيًا.
المتلاعب يتوقف فجأة عن الحديث أو الرد دون تفسير، فيشعر الطرف الآخر بأنه مذنب رغم عدم فهمه للسبب.
الهدف: إخضاع الطرف الآخر، ودفعه للاعتذار أو التنازل.
4- الإشارات المتضاربة (Gaslighting):
هو نوع من التلاعب النفسي المتقدّم، يتعمّد فيه الشخص تشكيك الطرف الآخر في واقعه أو ذاكرته أو مشاعره.
مثال: “أنت تتخيل أشياء لم تحدث!”، رغم أن الحدث وقع بالفعل. وهذا الأسلوب يُفقد الضحية ثقتها في نفسها تدريجيًا.
الضحية تقول: “بس أنا فاكرة إنك قلت كده!”
المتلاعب: “إنتِ دايمًا بتتلخبطي، عمرك ما بتفتكري صح.”
الهدف: زعزعة ثقة الشخص في ذاكرته ووعيه، ليُصبح تابعًا مشككًا في نفسه.
كيف تؤثر هذه الممارسات على الصحة النفسية؟
-فقدان الثقة بالنفس
-التشكيك الدائم في القرار أو المشاعر الشخصية
-التعلق المرضي بالمتلاعب
-اضطرابات القلق والاكتئاب
-العزلة الاجتماعية بسبب ضعف التواصل مع الآخرين
التراكم التدريجي لهذا النمط يجعل الضحية عرضة لتطوير ما يُعرف بـ”الصدمات النفسية العلائقية” (Relational Trauma)، وهو نمط عميق من الألم النفسي المرتبط بعلاقة معيّنة.
لماذا لا ينسحب الضحايا بسهولة من العلاقة؟
غالبًا ما يكون الضحايا غير مدركين لما يتعرضون له، بسبب طبيعة التلاعب الخفي. وقد يُربَط التلاعب أحيانًا بالحب، أو القلق على العلاقة، مما يجعل الانفصال مؤلمًا رغم الإيذاء.
كما أن المتلاعب قد يستخدم “فترات من اللطف” تُسمى في علم النفس بـ”دورات الإساءة والتصالح”، وهي تتبع فترات من الإساءة بفترات قصيرة من الاعتذار أو اللطف الزائف، تجعل الضحية تعود للتعلق، معتقدة أن “الأمور قد تتحسن”.
كيف يمكن مواجهة التلاعب العاطفي؟
1- الوعي أولًا: إدراك أن المشاعر يتم التلاعب بها هو أول خطوة في طريق التحرر.
2-وضع حدود واضحة: عدم السماح بتكرار السلوك المؤذي، والتعبير عنه بحزم.
3- طلب دعم نفسي: التحدث مع مختص نفسي أو شخص موثوق، يساعد على استعادة التوازن.
4- التقييم الواقعي للعلاقة: سؤال النفس: هل هذه العلاقة تُغذّي روحي؟ أم تُضعفني؟
5-التدريب على التعبير العاطفي بوضوح: وعدم الخوف من الرفض أو الخلاف.التلاعب بالمشاعر ليس مجرد خلاف عابر في العلاقات، بل هو اختراق خفي للحدود النفسية، قد يدمّر الثقة بالنفس ويشوّه مفهوم الحب والدعم. ولذلك فإن التعامل مع هذا النمط يتطلب شجاعة في المواجهة، ووعيًا كافيًا للفصل بين الحب الحقيقي، والرغبة في السيطرة المقنّعة تحت قناع الاهتمام.