طابا.. حين ينتصر التاريخ وتتكلم الخرائط ..قضية طابا التاريخية وأصولها(2)
إعداد / انتصار غريب محمد إبراهيم
تحت إشراف/ أ.د.خلف الميري
الجزء الثاني
الأصل التاريخي لقضية طابا:
في أول يونيو صدر فرمان من السلطان العثماني في أول يونيو 1841 ، بتعيين محمد علي باشا واليا علىمصر ، وتضمن هذا الفرمان حدود خريطة مصر حيث جاء فيه: ” ابقى في عهدتكم بطريق الامتياز، إدارةالخطة المصرية المحدودة بحدودها القديمة ، المعينة بالخريطة المختومة بختم الصدارة ، مضموماالى ذلك الوراثة وشروطها: أنه كلما خلا محل الوالي ، يكون إسناد الولاية لأولاده وأولاد أولاده الذكور،الأكبر فالأكبر ، ويكون تعيينهم بمعرفة الدولة العلية . في حال، انقراض الذكور ، يكون التعيين من حقالدولة العثمانية ، وليس لأبناء الإناث حق في منصب الولاية“.
وأُرفق بهذا الفرمان ، خريطة تحدد حد مصر الشرقيبخط يمتد من رفح إلى السويس ، ولم تعترفحكومة مصر بالحد المشار إليه ، بل جعلت حد مصر الشرقي ، خطًا مستقيمًا ، ممتدًا من رفح على نحو28 ميلا من العريش إلى جنوب قلعة الوجه ، فأدخلت بها سيناء كلها وقلاع العقبة وضبا والمويلحوالوجه ، بدليل أنها كانت تدير سيناء وهذه القلاع وتحميها بعساكرها قبل فرمان 1841.()
ويُعد وادي طابا من أهم أودية سيناء ، وهو ينشأ من جبل طرف الركن ونقب العقبة ، ويصب في الخليجقرب مصب طويلة ، على ثمانية أميال من قلعة العقبة برا ، وستة أميال بحرا ، وهو الوادي الذي وقعالخلاف عليه عام 1906 ، بين الدولة العلية والحكومه المصريه، فبقي في حد مصر، وجعل الحدالفاصل ، في جنبه الأيسر، عند مصبه بالخليج (رأس طابا ) ، وعند مصب هذا الوادي بئران : بئر حفرهاالأميرالاي ، سعد بك رفعت عند إخلائه العقبة عام 1892 ، وبئر حفرها رشدي باشا قومندان العقبة عام1906، في أثناء الخلاف السابق ذكره ، وعلى نحو ثلاثة أميال من مصبه بالبحر، عين شقير، وعليها دومة ، ولعلها الدومة الوحيدة في الجزيرة كلها.()
وقد ظلت الدولة العثمانية على عدائها لفكرة تعيين الحدود ، وكانت إجابتهادائما ، أن الباب العالي لنيُعين مبعوثًا ، حيث إنه ليس هناك مشكلة حدود ، بل عدوان على الأراضي العثمانية ، لا يمكن السكوتعليها ، وقد عبرت اللواء عن رأي مختار باشا ، المندوب السامي التركي في القاهرة في هذا الموضوع ،بأنه ما دامت مصر، ولاية تركية ؛ فلا يمكن أن يوجد بينها ، وبين بقية الولايات الخاضعة للإدارة التركيةمباشرة ، حدود وتخوم.
وكان من رأي السفير البريطاني في إسطنبول في البداية، تجميد الأزمة وكتب بأنه إذا لم تصمم علىتعيين الحدود ، فلن يتحول الأمر إلى أزمه خطيرة، ولكن السلطات البريطانية في القاهرة ، رأت أنه نتيجةلعدم موافقة الحكومة التركية على تعيين الحدود فقد كان من الضروري تأمين المراكز المصرية علىهذه الحدود ، وعلى ذلك فقد تقرر، إرسال قوة مصرية صغيرة ، تتكون من 50 رجلًا ، يقودها ضابطمصري هو سعد بك رفعت ؛ لمقابلة المستر براميل على الحدود ، قرب العقبة ، ولاحتلال طابا ، النقطةالمهمة ، التي تقع على الساحل الغربي من الخليج ، على بعد خمسة أميال من قلعة العقبة بحرا ، وثمانيةأميال برا. وصدرت التعليمات في نفس الوقت إلى المستر براملي لاحتلال نقب العقبة والقطار ، اللذينيتحكمان في الجبل الذي يمر خلال الطريق من الساحل إلى داخل هضبة سيناء
وقد تقدمت هذه القوة الصغيرة إلى طابا في سفينة خفر السواحل المصريه (نور البحر). ولأنالمواصلات عبر الصحراء وسلاسل جبال سيناء غاية في الصعوبة ، فقبل أن تصل التعليمات الجديدةلمستر براملي ، كان قد وصلته ، عدة تحذيرات من القائد التركي الذي كان موجودا في مكان يدعى أمالرشراش ( إيلات حاليا بعد إحتلال الكيان الصهيوني لها )، مما دعا إلى العودة إلى مركزه في نخل؛ ليرسلالتقرير اللازم ، ولكن بمجرد وصول التعليمات إاليه، عائد على الفور إلى الخليج ، قاصدا طابا ليكون فياستقبال القوة القادمة ،التي ما إن وصلها حتى فوجئ باجتماع على ظهر سفينة خفر السواحل المصريه ،بين قبطان السفينة الإنجليزي وقائد القوة المصري من جانب، وبين قائد قوة تركية كانت قد سبقت إلىاحتلال المركز من ناحية أخرى.
وقد أعلن القائد التركي ، أن لديه أوامر صريحة بمنع أي قوة من النزول في طابا ، ولو استدعى الأمراستعمال العنف ، ولما كانت الأوامر الصادرة للضابط المصري سعد بك رفعت تحذره من الصدام ، إلا فيحالة إطلاق النيران عليه ، كما أنه لم تكن لديه القوة الكافية للنزول الى البر ، فقد انسحب الى جزيرةفرعون الملاصقة للساحل الغربي ، على بعد أميال قليلة جنوب طابا ، وقبع في انتظار ما ينجلي عنه الأمر.
في هذا الوقت وقبل النصف الثاني من يناير 1906، وبينما كان كرومرفي السودان لافتتاح ميناء السودان ،طرأ على الموقف تغيير سياسي واضح ، حين استعمل الصدر الاعظم مع الخديوي ، أقصى لهجات العنفوالتهديد ، في برقيات ثلاثة متوالية ، ارسلها له في تلك الفترة. في البرقية الأولى، طلب أن تمتنع مصر عنبناء المراكز، كما أنه لن يتم إرسال مندوب تركي لتعيين الحدود.
أما البرقية الثانية، فتذكر أن الأراضي التركية ، لا تشمل العقبة فحسب ، بل تشمل أيضا المناطق المجاورةبما فيها طابا ، وأنها ليست ضمن الأراضي الممنوحة لمصر ، وشكا الصدر الأعظم من أن قاربا مصريامسلحا ، وهو ( نور البحر) قد أُرسل الى طابا ، وعليه جنود ، وختم برقيته ، بما معناه أن مصر نفسها ( جزء من تركيا ) ، فليس هناك على ذلك حاجة لتعيين الحدود بين الاراضي المصرية والتركية ، وأنه إذا ماأصرت مصر على الاستمرار في إنزال الرجال وبناء المراكز؛ فإن هذا الخروج عن الأوامر سوف يستدعياتخاذ أشد الإجراءات لوقفه.()
ويتصاعد العنف العثماني في البرقية الثالثة ، بطلب سحب نور البحر وألقوه المصريه من جزيرة فرعونوالتوقف عن بناء المراكز وإلا سوف تحدث أزمة.
وردا على هذا التهديد التركي ، تقدم المستر فندلي ، القائم بأعمال كرومر ، أثناء تغيبه باقتراحات محددة، طالبًا سرعة تنفيذها. ومن الناحية الدبلوماسية طالب بإرسال التعليمات إلى السفير البريطاني فيإسطنبول؛ للاحتجاج لدى الباب العالي ضد رفض السلطان الموافقة على اللجنة المشتركة للحدود ،ورغبةالسلطان الواضحة في تجاهل برقية 8 أبريل 1892 ، التي لم يأتي فيها أي ذكر لما حول العقبة ،وتهديدات الصدرالأعظم باستعمال القوة ضد المراكز المصرية ، التي أعتقد أنها موجودة في الأراضيالتركية.
كما اقترح فندلي ، إبلاغ السلطان أن مصر ترغب في إدارة أراضيها التي تقررت لها عام 1892 ، في سلام ،وأنه إذا ما هُددت المراكز المصرية ، فإن الحكومة المصرية سوف تضطر إلى طلب المعونة من الحكومةالبريطانية ، أما من الناحية العسكرية ، فقد طالب بإصدار الأوامر إلى البارجةالبريطانية ( ديانا ) ،الموجودة وقتها في بورسودان ، بالتقدم إلى العقبة ، كما أرسلت تعليمات إلى براملي وسعد بك رفعت ،تطلب منهما في حالة حدوث هجوم تركي عليهما ، أن يبادرا فيحتلا المراكز الآتية : آبار بيور الواقعة علىرأس خليج العقبة ، والتي يمتلكها الأعراب المصريون ، ونقب العقبة وهو مركز الاقتراب الرئيسي منالساحل إلى الداخل ، وطابا التي سبقهما الأتراك إليها.
وأصبح واضحا أنه لم يعد ممكنا حل المسألة محليا ، مما دعى الى إبلاغ برملي ورفعت إلى أنالمفاوضات ستبدأ في هذا الشأن بين القاهرة ولندن واسطنبول؛ بهدف الوصول إلى حل مناسب .()
عندما أرسل السلطان عبد الحميد الثاني فرمانًا ،لتولية عباس حلمي الثاني بعد وفاة الخديوي محمدتوفيق في 8 يناير 1892 ، قام السلطان بتحديد حدود مصر الشرقية في هذا الفرمان ، بالأراضي الواقعةإلى الغرب من الخط الواصل بين رفح والسويس ، مما جعل إنجلترا تعترض على هذا ، وتطالب بتحديدحدود سيناء كاملةلمصر ، من رفح حتى العقبة؛ وذلك لإبعاد الدولة العثمانية عن قناة السويس ، لضمانعدم تحركها داخل طرق سيناء ودروبها وصحاريها عن طريق منطقة طابا ، التي تتحكم في الطرق المؤديةإلى غزة وفي الطرق المؤدية إلى داخل سيناء بشكل عام ، وهي الطرق الموصلة إلى مصر في الداخل.
وقد علقت جريدة المقطم في العدد 892 ، على تعسف الدولة العثمانية في تحديد خط الحدودالشرقية لمصر،وذكرت المباحثات التي دارت بين المندوب السامي العثماني أحمد مختار باشا ، وبينرجال الحكومة المصرية ، عن الحدود الشرقية والتي اعترفت فيها الحكومة المصرية بعدم تبعية أرضمدين ، وهي الأراضي الواقعة بين العقبة شمالا والوجه جنوبا للأراضي المصرية ، وطالبت الدولةالعثمانية بتحديد حدود مصر الشرقية بأرض سيناء كلها.
ونتيجة للضغوط عليها ، قررت الدولة العثمانية أن ترضخ لمطالب مصر، بالنسبة للحدود في سيناء، فأرسل الصدر الأعظم ، جواد باشا ، برقية للخديوي عباس حلمي الثاني في 8 أبريل 1892 – 7 رمضان1309هـ ، لتصحيح الوضع ، أكد فيها على عودة منطقة العقبة – الوجه إلى ولاية الحجاز؛ بسبب تغييرطريق قافلة الحج المصري من البر إلى البحر؛ ولأنها لم ترد في خريطة سنة 1841، أما فيما يتعلق بشبهجزيرة سيناء ، فكتب للخديو يقول ” إن الحالة الحاضرة تبقى فيه ، كما هي عليه ، وتكون ادارتهابيدالخديوية المصرية ، كما كانت في عهد جد فخامتكم ، إسماعيل باشا ، والمرحوم والدكم ، توفيق باشا “.