نجده محمد رضا
في زحمة الحياة الحديثة، وبين ضغوط التواصل اليومي، يجد البعض نفسه عالقًا في مشهدٍ لم يحدث… أو حدث وانتهى، لكنه يعود ليُعرض في ذهنه مرارًا وتكرارًا. يراجع الكلمات، يبدّل الردود، يهاجم، يدافع، ثم يعيد العرض من البداية. هذه الظاهرة النفسية التي لم تُدرَج رسميًا في كتب الطب، تُعرف باسم “متلازمة جوسكا” (Jouska Syndrome).
“جوسكا” ليست مرضًا نفسيًا مُعترفًا به حتى الآن، لكنها أصبحت مصطلحًا واسع الاستخدام في الثقافة الرقمية، لوصف نوع معين من الحوارات التخيلية الداخلية المتكررة، التي يخوضها الإنسان داخل رأسه. الشخص المصاب بها يسترجع موقفًا معينًا – عادةً ما يكون محرجًا أو خلافًا لفظيًا – ويبدأ في إعادة بنائه، لكنه هذه المرة يخرج منتصرًا، يقول ما لم يقله، ويرد بما لم يجرؤ عليه.
اللفظة ظهرت لأول مرة في مشروع لغوي على الإنترنت بعنوان The Dictionary of Obscure Sorrows، والذي يبتكر كلمات جديدة لمشاعر وتجارب إنسانية ليس لها اسم واضح.
رحلة داخل عقل مشغول
“أوقات بحس إن دماغي بتشتغل كأنها فيلم سينمائي بيتعاد مئة مرة، بس كل مرة النهاية مختلفة”، تقول سلمى، طالبة جامعية في السنة الثانية، وتضيف: “كل ما أرجع البيت من أي نقاش سخيف مع زميلتي، أبدأ أجادلها في دماغي وأنتصر… بس برضو أحس إني متضايقة أكتر”.
هذا النوع من التفكير ليس غريبًا، بل هو سلوك شائع بين الأفراد ذوي الذكاء العاطفي المرتفع أو أصحاب الشخصية التحليلية. لكن إذا زاد الأمر عن حده، يمكن أن يتحوّل من تفريغ نفسي إلى دوامة من القلق والاجترار الذهني (Rumination) يصعب الخروج منها.
علماء النفس يعتبرون “جوسكا” في حد ذاتها ليست اضطرابًا، لكنها قد تكون مؤشرًا على اضطرابات أعمق، مثل:
القلق الاجتماعي (Social Anxiety)
الوسواس القهري الفكري (Pure OCD)
الاكتئاب الخفيف إلى المتوسط
فالمتلازمة يمكن أن تكون وسيلة دفاع نفسية مؤقتة، لكنها تتحول إلى فخ ذهني إذا منعت الفرد من التركيز، أو النوم، أو التفاعل الواقعي مع الآخرين.
طرق التعامل معها:
الخبراء ينصحون بعدة خطوات لتقليل تأثير “جوسكا”، منها:
1. الوعي الذاتي: الاعتراف بوجود الظاهرة هو أول خطوة.
2. إيقاف السيناريو بإرادتك: قل لنفسك “كفاية كده”، وانقل تفكيرك لمهمة مختلفة.
3. التفريغ بالكتابة: كتابة السيناريوهات ثم تمزيق الورقة تساعد على إغلاق الدائرة الذهنية.
4. التأمل وتمارين اليقظة (Mindfulness).
5. التحدث مع معالج نفسي: خاصةً إذا أصبحت “جوسكا” مرتبطة بمشاعر قلق دائم أو لوم للنفس.
في عالم يزداد فيه الضغط النفسي، يصبح عقل الإنسان ملعبًا مفتوحًا لكل ما لم يُقال. وبين “كان يجب أن أقول” و”ليتني قلت”، تضيع لحظات الحاضر لصالح مواقف مضت أو لم تأتِ بعد. “جوسكا” ليست عدوًا… لكنها مرآة حساسة لما نخشاه، أو لما نودّ قوله ولم نستطع.
ربما حان الوقت لإغلاق السيناريو، والخروج من قاعة العرض الداخلية… فالحياة تُعاش خارج الرأس.
