كتب : جمال حشاد
شهد العالم خلال العقدين الأخيرين ثورة رقمية غير مسبوقة، كان أبرز تجلياتها بروز وسائل التواصل الاجتماعي كعنصر مركزي في الحياة اليومية للمجتمعات. فقد أصبحت تطبيقات مثل فيسبوك، إنستغرام، تويتر، تيك توك، وواتساب أدوات لا غنى عنها في التواصل، ونقل الأخبار، والتعبير عن الرأي. لكن مع هذا الحضور القوي، برزت تساؤلات كثيرة: هل قربتنا هذه الوسائل حقًا من بعضنا؟ أم أنها ساهمت في تآكل العلاقات الاجتماعية الحقيقية؟
أولًا: التواصل الرقمي.. سهولة الاتصال أم سطحية العلاقة؟
تُعتبر وسائل التواصل الاجتماعي أداة فعالة للتواصل السريع. يستطيع الفرد اليوم أن يتواصل مع أصدقائه وأهله في مختلف أنحاء العالم بضغطة زر، يرسل صورة، يسجل مقطعًا صوتيًا، أو يشارك لحظة من يومه. هذا النوع من الاتصال اختصر المسافات وساعد الكثيرين على البقاء على تواصل رغم الانشغالات أو الغربة.
لكن في المقابل، فإن هذا النوع من العلاقات يغلب عليه الطابع السطحي. فالمحادثات القصيرة، والردود الجاهزة، والإعجابات التلقائية، لا تكفي لبناء روابط إنسانية عميقة كما كان يحدث سابقًا في اللقاءات الواقعية والمحادثات الطويلة.
ثانيًا: العزلة الاجتماعية خلف الشاشات:
المفارقة العجيبة أن الإنسان أصبح محاطًا بآلاف المتابعين والأصدقاء على المنصات الرقمية، لكنه في كثير من الأحيان يشعر بوحدة قاتلة. لقد أدت هذه الوسائل إلى خلق عزلة اجتماعية “ناعمة”؛ حيث يكتفي الكثيرون بالتفاعل الرقمي بدلًا من اللقاءات الحقيقية. ومع الوقت، تتآكل القدرة على التفاعل الإنساني الواقعي: لغة الجسد، الإصغاء الحقيقي، والانخراط العاطفي.
وتزداد هذه الظاهرة وضوحًا بين المراهقين والشباب الذين يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات، ما يؤثر على نموهم الاجتماعي ويحد من مهارات التواصل الحي.
ثالثًا: ثقافة المقارنة وتأثيرها على العلاقات:
وسائل التواصل مليئة بصور النجاح، والسعادة، والجمال، والسفر. وهذا الأمر يُغذي ثقافة المقارنة المستمرة، حيث يقارن الأفراد أنفسهم وأسلوب حياتهم بالآخرين. وينتج عن ذلك شعور بالنقص، أو الغيرة، أو حتى الحسد، ما ينعكس سلبًا على العلاقات، ويجعلها أكثر هشاشة.
كثير من الصداقات والعلاقات العائلية تتأثر بسبب منشور عابر أو تعليق غير محسوب. فالتعبير المفتوح على هذه المنصات يجعل الخصوصية هشة ويزيد من فرص سوء الفهم.
رابعًا: الجانب المضيء.. فرص جديدة للتواصل المجتمعي
ورغم كل السلبيات، لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي أوجدت فرصًا كبيرة لبناء مجتمعات افتراضية هادفة. فقد ظهرت مبادرات اجتماعية، حملات توعية، مجموعات دعم نفسي، وحملات تبرع، كل ذلك بفضل هذه الوسائل.
كما أتاحت للبعض الفرصة للتعبير عن آرائهم، أو مشاركة مواهبهم، أو التعرف على أشخاص يشاركونهم نفس الاهتمامات، وهو ما قد لا يتاح في الحياة الواقعية.
خامسًا: نحو توازن صحي
الحل ليس في الهروب من وسائل التواصل، ولا في الإدمان عليها. بل يكمن في تحقيق توازن صحي في استخدامها:
١. تحديد وقت يومي لاستخدام المنصات.
٢. تخصيص وقت للتفاعل الإنساني المباشر مع العائلة والأصدقاء.
٣.التحقق من صحة المحتوى قبل مشاركته أو التفاعل معه.
٤. تعزيز مهارات التواصل الواقعي لدى الأطفال والمراهقين.
٥. وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين. فهي قادرة على تقوية الروابط، كما يمكن أن تضعفها. التحدي الحقيقي هو أن نستخدم هذه الأدوات بوعي، وأن نبني من خلالها جسور تواصل حقيقية لا مجرد واجهات رقمية.
إننا بحاجة ماسة اليوم لإعادة النظر في طبيعة تواصلنا، ليس فقط مع الآخرين، بل مع أنفسنا أيضًا. فالتواصل الإنساني العميق لا يمكن أن تعوّضه شاشة،
ولا يمكن أن تحل مكانه.