
بقلم: صلاح عثمان
الإسكندرية – 10 أغسطس 2025م
مدخل تأملي
في لحظة فارقة من تاريخنا، حيث تتقاطع الأزمات مع التحولات، يبرز سؤال جوهري: ما الذي يصنع الإنسان؟
هل هو تراكم المعرفة؟ أم امتلاك الأدوات؟ أم أنه مشروع أخلاقي يتجاوز المظاهر إلى الجوهر؟
هذا المقال ليس مجرد تأمل نظري، بل محاولة لإعادة ترتيب الأولويات، والانطلاق من الإنسان لا من أدواته، ومن القيم لا من الشعارات.
الإنسان أولًا: لا بناء بلا بنّاء
كل حضارة عظيمة تبدأ من الإنسان. لا من الحجر، ولا من التقنية، بل من الوعي الذي يُدرك الغاية من وجوده، ويُحسن توظيف أدواته في خدمة هذه الغاية.
حين يُختزل الإنسان في وظيفته أو استهلاكه، يتحول إلى أداة في ماكينة الحضارة، لا إلى غايتها.
وهنا يكمن الخطر: أن نبني كل شيء، وننسى من يبنيه.
لحظة المعصية: بين غواية إبليس وندم آدم
في أصل الحكاية، حين وقف أبونا آدم عليه السلام أمام الشجرة، لم يكن مجرد اختبارٍ للامتثال، بل لحظة حرجة تُجسّد ما يواجهه الإنسان في كل معصية:
تردد، رغبة، ضعف، ثم سقوط.
وفي الخلفية، قسم إبليس:
“فبعزتك لأغوينهم أجمعين”
قسمٌ لا يُهدد الجسد، بل يُراهن على النفس، ويستهدف الوعي، ويُغلف المعصية بالوعد الكاذب.
لكن الفرق بين آدم وإبليس، أن آدم ندم، وتاب، وارتقى أما إبليس، فكابر، واستكبر، وسقط في هاوية اللعنة.
وهنا تتجلى الفكرة: الإنسان ليس معصومًا، لكنه مسؤول.
والمثل الأعلى لا يعني الكمال، بل السعي الدائم نحو الخير، والقدرة على الاعتراف، والتوبة، والتجاوز.
التربية: صناعة الإنسان لا تلقينه
التربية ليست تلقينًا ولا تدريبًا، بل هي صناعة الإنسان من الداخل.
هي بناءٌ للضمير، وتشكيلٌ للوجدان، وتحريرٌ للعقل.
والمثل الأعلى هو ما يمنح هذه التربية معناها، ويجعل من الإنسان مشروعًا أخلاقيًا، لا مجرد رقم في منظومة إنتاجية.
حين يغيب المثل الأعلى، تتحول التربية إلى مهارات بلا روح، وإلى شهادات بلا قيم.
لكن حين يحضر، يصبح كل فعل تربوي امتدادًا لقيمة، وكل درسٍ نافذةً نحو الإنسان الكامل.
المثل الأعلى: من القدوة إلى الرؤية
المثل الأعلى ليس فكرة مثالية تُعلّق على الجدران، بل هو رؤية تُجسّد في السلوك، وتُترجم في القرارات، وتُغرس في الوعي الجمعي.
هو النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته، والمعلم في نزاهته، والوالد في رحمته، والقائد في عدله.
هو ما يجعل من الإنسان مرآةً للقيم، لا مجرد ناقلٍ لها.
في زمن الأزمات، يظهر الفرق بين من يمتلك مثلًا أعلى، ومن يفتقر إليه.
فالأول يُعيد ترتيب أولوياته، ويُنتج حلولًا أخلاقية، والثاني يُعيد إنتاج الأزمة بأشكالٍ جديدة.
نحو حضارة تُكرّم الإنسان
الحضارة ليست ناطحات سحاب، ولا تقنيات فائقة، بل هي قدرة الإنسان على أن يُكرّم ذاته، ويُحسن توظيف أدواته في خدمة الخير العام.
والمثل الأعلى هو ما يمنح هذه الحضارة معناها، ويجعلها إنسانية لا مادية فقط.
إننا اليوم بحاجة إلى إعادة الاعتبار للإنسان، لا بوصفه أداة، بل بوصفه غاية.
وذلك يبدأ من التربية، ويمر عبر الإعلام، ويصل إلى السياسات العامة التي تُكرّس القيم لا المصالح فقط.
خاتمة
المثل الأعلى ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية.
هو ما يجعل من الإنسان فاعلًا في التاريخ، لا متفرجًا عليه.
وهو ما يمنح الحياة معناها، ويجعل من كل جيلٍ مشروعًا للارتقاء، لا مجرد امتدادٍ لما قبله.
فلنُعيد ترتيب الأسئلة، ولنبدأ من الإنسان، لا من أدواته.
ولنُحيي المثل الأعلى في ح
ياتنا، لا بوصفه ذكرى، بل بوصفه رؤية للمستقبل.