بقلم السيد عيد
هناك لحظات في العمر تبقى محفورةً في الذاكرة، لا لأنها عظيمة في ظاهرها، بل لأنها تركت في القلب أثرًا لا يمحوه الزمن. ومن بين تلك اللحظات، أذكر أوّل يوم لي بعد الانتقال من القاهرة إلى قرية الحجايزة، إحدى أجمل قرى محافظة الدقهلية. كنت حينها في الصف الأول الإعدادي؛ ذلك العمر الذي يقف فيه الإنسان على عتبة المراهقة، بين طفولة لم تكتمل، ورجولة تلوّح من بعيد.
كان الانتقال مفاجئًا، وظروف الأسرة تفرض ما لا نملك حياله إلا القبول. لم تكن الصدمة في المكان الجديد فحسب، بل في الإحساس بأن عالمًا كاملاً تغيّر حولي. ومع ذلك، حملت حقيبتي في صباحي الأول، ودخلت المدرسة بخطوات مترددة. وما إن جلست في أول حصة حتى أعلن المعلم:
“موضوع التعبير اليوم” عند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان.”
تملكتني رهبة الاختبار الأول في مدرسة جديدة، بين زملاء جدد، وفي بيئة مختلفة. لكنّ الكلمات بدأت تتدفق حين تذكرت قصة تهزّ القلوب مهما طال الزمن: قصة سيدنا إبراهيم وابتلائه بابنه إسماعيل.
كتبت وقتها، ببراءة وخبرة قلب صغير، عن ذلك الامتحان الأعظم؛ حين رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، ورغم هول الموقف، لم يتردد في طاعة ربه، ولم يتراجع إسماعيل عن الاستسلام لأمر الله. هناك تجلّى معنى الامتحان الحقيقي: امتحان الإيمان، وصدق اليقين، وطهارة القلب.
لم يكن الامتحان سؤالًا على ورقة، ولا درجات تنتظر في آخر الأسبوع. كان امتحانًا يفصل بين مقام ومقام، وبين قلب وقلب. وحين نجح الاثنان، كُرّما تكريمًا ربانيًا لا يشبهه شيء: “وفديناه بذبحٍ عظيم.”
ذلك اليوم علّمني أن الامتحان في الحياة ليس مقصورًا على المدارس؛ فلكل قلب امتحانه، ولكل إنسان لحظة تكشف معدنه الحقيقي.
قد يكون الامتحان في صبر، أو كلمة حق، أو موقف لا يراك فيه أحد إلا الله. وقد يكون في الانتقال من مدينة إلى قرية، أو من حياة اعتدت عليها إلى أخرى تفرضها الظروف. لكنها كلها امتحانات، تُظهر ما في النفوس، وتكشف من يُكرَم ومن يُهان.
وخرجت يومها من الفصل وقد فهمت دون أن يخبرني أحد أن الامتحان ليس لحظة نخافها، بل فرصة لنثبت لأنفسنا قبل الآخرين أننا أقوى مما نظن، وأن الله لا يضع عبدًا في امتحان إلا ليُخرجه منه بدرجة أعلى، أو قلب أنقى، أو حكمة أعمق.
وهكذا، بقيت ذكرى ذلك اليوم في ذاكرتي لا لأنها مجرد حصة لغة عربية، بل لأنها علّمتني أن النجاح الحقيقي يبدأ من الداخل، وأن التكريم الحقيقي يأتي من السماء قبل أي ورقة إجابة.
وما زلت كلما ضاقت بي الحياة، أتمتم لنفسي:
“عند الامتحان… يُكرَم المرء أو يُهان”
