د.نادي شلقامي
يُمثل نجيب محفوظ وأحمد بهجت قمتين شاهقتين في المشهد الثقافي والأدبي المصري، ورغم اختلاف مساريهما الأدبيين، إلا أنهما شكّلا معًا جزءًا لا يتجزأ من الوجدان المصري والعربي. نجيب محفوظ هو الأب الروحي للأدب العربي الحديث، الذي نقل الحياة المصرية بكل تفاصيلها وتركيباتها الاجتماعية والسياسية إلى مصاف العالمية. أما أحمد بهجت، فهو فنان الكلمة البسيطة العميقة، الذي مزج بين السخرية والفكر والتصوف ليقدم رؤى نقدية وإنسانية مميزة. هذا التقرير يهدف إلى استعراض سيرتهما الذاتية، وإسهاماتهما الأدبية والفكرية التي تركت بصمة لا تُمحى.
أولاً: نجيب محفوظ….الأديب العالمي
(مئذنة الرواية العربية التي صدحت عالميًا)
نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا (1911 – 2006) ليس مجرد كاتب مصري، بل هو الذاكرة الحية للقاهرة ورائد الرواية العربية الحديثة بلا منازع. لُقّب بـ “أديب نوبل” بعد فوزه بالجائزة عام 1988، ليصبح صوته هو الصوت الذي عرّف العالم على عمق وتفاصيل الحياة المصرية المعاصرة. هذا التقرير المفصل يستعرض محطات حياته، تطور مسيرته الأدبية، وأثر إرثه الخالد على الثقافة العربية والعالمية.
1- تواريخ مهمة..
— وُلد: 11 ديسمبر 1911، القاهرة، مصر.
— تُوفي: 30 أغسطس 2006، القاهرة، مصر.
2- المسيرة الأدبية والمراحل الرئيسية..
تطورت مسيرة نجيب محفوظ الأدبية على مراحل واضحة، عكست اهتماماته الفكرية وتحولات المجتمع المصري:
أ- مرحلة النشأة والبدايات (1932 – 1944):
1- الخلفية الفلسفية: تخرج محفوظ في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، وهو ما ترك أثرًا عميقًا في أعماله اللاحقة من حيث التساؤلات الوجودية والقضايا الكبرى.
2- الروايات التاريخية: بدأ مسيرته بروايات مستوحاة من التاريخ المصري القديم مثل (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة)، متأثرًا بالكاتب سلامة موسى. هذه الأعمال مثلت تدريبًا له على تقنيات السرد الروائي.
ب- مرحلة الواقعية الاجتماعية (1945 – 1957):
1- تُعد هذه المرحلة الأخصب والأكثر شهرة، حيث تحول محفوظ من التاريخ القديم إلى رصد الواقع الاجتماعي في الأحياء الشعبية والطبقة الوسطى بالقاهرة.
2- رصد الحياة اليومية: في أعمال مثل (القاهرة الجديدة، خان الخليلي، زقاق المدق)، قدم محفوظ شخصيات حية ومعقدة، معرّيًا التناقضات والفساد الاجتماعي والأخلاقي.
3- “الثلاثية”: التحفة الخالدة (1956 – 1957): تتكون من (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية). تُعد ملحمة اجتماعية وسياسية تتبع حياة عائلة “السيد أحمد عبد الجواد” على مدى ثلاثة أجيال (من عام 1917 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية). سجلت الثلاثية التحولات في السياسة والدين والأخلاق والتعليم داخل المجتمع المصري.
ج- مرحلة الرمزية والتساؤلات الفلسفية (بعد 1959):
1- بعد صمت أدبي عقب ثورة 1952، عاد محفوظ بأسلوب رمزي عميق يعكس خيبة الأمل والبحث عن المعنى:
2- أولاد حارتنا (1959): تُعد الرواية الأكثر إثارة للجدل، حيث استخدم فيها الرمزية الدينية لتناول قصة البشرية وصراعها مع القوة والخير والشر. وقد مُنع نشرها في مصر لسنوات طويلة.
3- أعمال النقد الاجتماعي والسياسي: استمر في نقد الواقع من خلال أعمال رمزية كـ (اللص والكلاب، السمان والخريف، الطريق، ثرثرة فوق النيل)، حيث تناول القضايا بحدة وغموض محبب.
د- مرحلة الانفتاح والتجريب (السنوات الأخيرة):
1- في هذه المرحلة، اتسمت أعماله بالتركيز على التقنيات الجديدة وظهرت القصص القصيرة جدًا وأدب الأحلام:
2- أدب الأحلام: أعمال مثل (أصداء السيرة الذاتية) كانت قصيرة ومكثفة، تستعرض ذكرياته وتأملاته الوجودية بطريقة أشبه بأحلام اليقظة.
3- جائزة نوبل والتأثير العالمي (1988)
3-1- تتويج المسيرة: فاز بجائزة نوبل في الآداب عام 1988، ليصبح أول أديب عربي يحقق هذا الإنجاز.
3-2- مبررات الجائزة: مُنحت له “لأنه من خلال أعماله الغنية بالفروق الدقيقة والمتبصرة، يشكل فنًا سرديًا عربيًا ينطبق على الإنسانية جمعاء”.
3-3- الأثر: فتح فوزه الباب لترجمة أعماله إلى عشرات اللغات، مما كشف عن ثراء الأدب العربي وواقع العالم العربي لجمهور عالمي واسع.
4- محفوظ والسينما المصرية
ارتبط نجيب محفوظ بعمق بالسينما المصرية. فقد تحول عدد كبير جدًا من رواياته إلى أفلام سينمائية كلاسيكية، مثل: بداية ونهاية، اللص والكلاب، زقاق المدق، الثالوث، وميرامار. وقد كتب هو نفسه بعض السيناريوهات.
5- الحياة الشخصية والهادئة
عُرف محفوظ بحياته الهادئة والمنضبطة. ظل موظفًا حكوميًا لأكثر من ثلاثة عقود، وعاش في القاهرة التي كانت مصدر إلهامه الأبدي. اشتهر بـ “شلة الحرافيش” وهم مجموعة من الكتاب والنقاد كان يلتقي بهم أسبوعيًا في مقاهي وسط البلد (خاصة مقهى الفيشاوي ومقهى ريش). تزوج متأخرًا وأنجب ابنتين.
ثانيا: أحمد بهجت….
( فيلسوف السخرية وكاتب الروحانيات المُبَسَّطة)
أحمد بهجت (1932 – 2011) هو كاتب وصحفي ومفكر مصري استثنائي، اشتهر بأسلوبه الأدبي الذي يجمع ببراعة بين عمق الفلسفة والفكر الوجودي، وخفة الظل والسخرية الاجتماعية. نجح بهجت في بناء جسر بين الروحانيات الصوفية والقضايا الدينية وبين القارئ العادي، بعيدًا عن الوعظ التقليدي. هذا التقرير التفصيلي يتناول مسيرته المهنية، سمات أسلوبه الفريد، وأبرز الأعمال التي تركها إرثًا ثقافيًا وفكريًا للأجيال.
— وُلد: 15 نوفمبر 1932، القاهرة، مصر.
— تُوفي: 11 ديسمبر 2011، القاهرة، مصر (وهو من وفيات هذا اليوم).
1- السيرة الذاتية والمحطات المهنية
1-1- التعليم والبداية: تخرج بهجت في كلية الحقوق بجامعة القاهرة. لم يمارس المحاماة، بل اتجه مباشرة إلى الصحافة والكتابة.
1-2- المناصب الصحفية: عمل في مؤسسات صحفية مرموقة، منها: نائب رئيس تحرير جريدة الأهرام. رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون. كان له عمود ثابت ومحبوب في الأهرام.
2- سمات الأسلوب الأدبي: السهل الممتنع
يُعرف أحمد بهجت بامتلاكه لقلم ذي نكهة خاصة جداً، يعتمد على:
2-1- السخرية الإنسانية الدافئة: استخدم بهجت السخرية والفكاهة كأداة نقد اجتماعي وفكري، وليس كغاية في حد ذاتها. كانت سخرية تُضحك القارئ وتجعله يفكر في الوقت نفسه.
2-2- تبسيط الفكر الروحي: تميز بقدرة نادرة على تناول قضايا التصوف، والبحث عن الله، وقصص الأنبياء، بطريقة سلسة وعصرية وبعيدة عن التعقيد الأكاديمي أو التزمت الديني.
2-3- الواقعية الفلسفية: في أعماله الساخرة، كان يعكس بدقة حياة الطبقة الوسطى وقضايا الأسرة والمجتمع، مغلفًا هذه الملاحظات بتأملات فلسفية عميقة حول الحياة والوجود.
2-4- المرونة في النوع الأدبي: تنوعت كتاباته بين المقالة الصحفية، الرواية القصيرة، السرد الروحي، وأدب السيرة الذاتية.
3- أبرز الأعمال والمؤلفات الخالدة
3-1- مذكرات زوج: أشهر أعماله الساخرة، وهو عبارة عن مجموعة مقالات قصيرة تحكي عن التناقضات والمفارقات في الحياة الزوجية. وقد تحول هذا العمل إلى فيلم سينمائي ومسلسل تلفزيوني شهير.
3-2- الطريق إلى الله: من أهم كتبه الروحية، حيث يدمج فيه قصص الأنبياء وتفسير الآيات القرآنية مع تأملاته الشخصية بلغة عذبة ومؤثرة.
3-3- أنبياء الله وأئمة الحب: وهي كتب تجمع بين السرد القصصي والعمق الروحي.
3-4- قصص الحيوان في القرآن: كتاب شهير للأطفال والكبار على حد سواء، يروي فيه قصص الحيوانات المذكورة في القرآن بأسلوب حكائي تربوي.
4- التأثير والإرث
يُعد أحمد بهجت من الكتّاب القلائل الذين نجحوا في مخاطبة عقول وقلوب أجيال مختلفة. لقد ساعد قلمه على إحياء الاهتمام بالفكر الصوفي والعمق الروحي في مواجهة موجات الجفاف المادي أو التشدد الفكري. كانت مقالاته دعوة دائمة إلى التصالح مع الذات، وإلى البحث عن الجمال في التفاصيل اليومية للحياة.
وختاما….فإن على الرغم من التباين الواضح في مسار الكاتبين؛ فنجيب محفوظ كان روائيًا واقعيًا بامتياز يهتم ببناء الشخوص والمدينة، بينما كان أحمد بهجت مقالياً وصحفياً فلسفياً يهتم بتحليل الفكرة والتصوف والسخرية، إلا أنهما التقيا في نقطة جوهرية: الإخلاص لقضايا الإنسان المصري والعربي.
لقد ترك نجيب محفوظ إرثًا ضخمًا وضع الأدب العربي على خريطة الأدب العالمي، مؤرخًا لحقبة كاملة من تاريخ القاهرة، ومحللاً لأعقد العلاقات الاجتماعية والفلسفية. في المقابل، ترك أحمد بهجت إرثًا من العقلانية المتصوفة والفكاهة العميقة، مقدمًا للعامة تفسيرًا بسيطًا لتعقيدات الحياة والوجود، ومجسدًا ببراعة الفكر البسيط الممتنع في ثقافة المقالة.
