نهاد عادل
في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتدفق المعلومات بلا توقف، تظلّ القراءة أحد أهم مفاتيح الوعي وبناء الفكر النقدي. فالمجتمعات القارئة هي مجتمعات أكثر قدرة على الحوار، وأكثر استعدادًا لتقبّل الاختلاف واحترام التنوع، لأنها لا تكتفي باستهلاك الأخبار، بل تحللها وتفهم سياقاتها.
القراءة في زمن السرعة
يثير واقع القراءة اليوم جدلًا واسعًا، خصوصًا مع انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. فهل أصبحت القراءة “موضة قديمة”، أم أن شكلها فقط هو ما تغيّر؟
تشير دراسات حديثة إلى أن متوسط القراءة اليومية في العالم العربي لا يتجاوز 6 دقائق للفرد، مقابل نحو 30 دقيقة عالميًا. هذا الفارق الكبير لا يعكس نقصًا في الوقت بقدر ما يكشف عن تغيّر الأولويات. فالساعات الطويلة التي نقضيها يوميًا على الهاتف تؤكد أن الوقت متاح، لكن توجيهه هو المشكلة الحقيقية.
بين القراءة العميقة والاستهلاك السريع
القراءة الأصيلة تحتاج إلى تركيز وهدوء وربطٍ بين الأفكار، وهي تختلف جذريًا عن تصفّح مقاطع قصيرة أو مشاهدة اقتباسات سريعة من الكتب على منصات التواصل. فهناك فرق شاسع بين قراءة رواية كاملة، وبين الاكتفاء بملخص أو “ريلز” لا يتجاوز دقائق.
المشكلة ليست في أن الجيل الجديد لا يحب القراءة، بل في أن القراءة لم تعد تُقدَّم له بالشكل الجاذب والمناسب لإيقاع حياته.
تحوّل العادات لا نهاية القراءة
في الماضي، ارتبطت القراءة بالوقت الطويل والهدوء، أما اليوم فقد أصبحت العادات مختلفة؛ يقرأ كثيرون عناوين سريعة، ومنشورات قصيرة، وملخصات جاهزة. هذا التحول لا يعني نهاية القراءة، بل تغيّر شكلها.
غير أن الخطر الحقيقي يظهر عندما تحل السرعة محل الفهم، ويصبح الكمّ أهم من الجودة، فيفقد القارئ قدرته على التركيز العميق والتفكير النقدي.
القراءة السريعة وصناعة أنصاف المثقفين
مع انتشار ثقافة الاختصار، ظهرت كتب ومواقع تروّج لما يُعرف بـ“القراءة السريعة”، وتطبيقات تلخّص الكتب في دقائق. ورغم فائدتها المحدودة، فإن الاعتماد المفرط عليها يؤدي إلى تلقي أفكار ناقصة ومشوّهة، ويضيّع مقاصد المؤلفين.
فالقراءة المتعجلة لا تبني معرفة راسخة، بل تساهم في صناعة أنصاف مثقفين يكتفون بالمقدمات والمختصرات، دون الغوص في عمق النصوص.
نحو توازن مطلوب
ليست المشكلة في السرعة بحد ذاتها، بل في غياب التوازن. فالعصر الحديث يفرض إيقاعه، لكن الحفاظ على مساحة للقراءة المتأنية ضرورة لا غنى عنها. وحدها القراءة العميقة قادرة على بناء عقل ناقد، وفهمٍ صحيح، وثقافة حقيقية تتجاوز السطح إلى الجوهر.
