كتب م / رمضان بهيج
“ميلاد القوة من رحم الضعف” واحدة من أعمق الفلسفات الإنسانية التي تختزل رحلة الصعود من الانكسار إلى القمة. فهي تخبرنا أن الضعف ليس نهاية الطريق، بل هو “المختبر” الذي تُصهر فيه الإرادة لتخرج أكثر صلابة.
يقول المولى عز وجل ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾، سورة التكوير، الآية الثامنة عشرة. وتُقسم هذه الآية بالصُّبح إذا أشرق وأضاء بعد ظلام الليل، حيث شبه انتشار ضوئه ونسيمه اللطيف بـ”التنفس”، وهو استعارة بلاغية تدل على انبساط النور وزوال الكرب، وأن النهار يخرج من الليل كما يتنفس الكائن بعد ضيق.
حين يكون الانكسار بداية الاستقامة
في نواميس الكون، لا تشرق الشمس إلا بعد أشد ساعات الليل عتمة، ولا ينبت الزرع إلا بعد أن تشق البذرة طريقها بصعوبة وسط تراب الأرض الثقيل. وكذلك هي النفس البشرية؛ لا تدرك مكامن قوتها الحقيقية إلا عندما توضع في اختبار الضعف العظيم.
الضعف ليس عجزاً، بل هو “مرحلة تحول”
كثيراً ما نخطئ الفهم حين نظن أن الضعف وصمة عار أو حالة من الهزيمة الدائمة. الحقيقة أن الضعف هو اللحظة التي تتجرد فيها النفس من الأوهام والغرور، فتصبح أكثر صدقاً مع ذاتها. في لحظات الانكسار، تسقط الأقنعة وتظهر المعادن الحقيقية، وهنا يبدأ “الميلاد الجديد”.
كيف يولد القوي من رحم المعاناة؟
إن القوة التي تأتي بعد ضعف ليست مجرد “قوة عضلية” أو “سلطة مادية”، بل هي صلابة نفسية تُبنى على ثلاثة ركائز:
الوعي بالذات: الضعف يجبرنا على التوقف ومراجعة حساباتنا، مما يمنحنا فهماً أعمق لنقاط ضعفنا وكيفية تحويلها إلى ثغرات للقوة ؛ كثيرون يهربون من “الضعف” ويخجلون منه، لكن الحقيقة أن أشد أشجار البلوط صلابة بدأت من بذرة صغيرة كانت تصارع ثقل التراب لتخرج للنور.
التكيف والقبول: القوة الحقيقية تبدأ من قبول الضعف الإنساني، ومن ثم العمل على تجاوزه.
تراكم الخبرة: الألم الذي يصاحب الضعف يعمل كـ “بوصلة” ترشدنا لتجنب العثرات مستقبلاً.
إذا تأملنا سير العظماء، سنجد أن أغلبهم لم يولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، بل ولدوا من رحم المعاناة. فالمخترع الذي فشل مئات المرات، والقائد الذي خسر معاركه الأولى، والأديب الذي عانى من التهميش؛ كل هؤلاء استمدوا “وقود” نجاحهم من لحظات ضعفهم. لقد حوّلوا الألم إلى أمل، والعجز إلى إنجاز.
القوة هي اختيار
إن “رحم الضعف” لا ينجب القوة تلقائياً لكل من يعاني، بل ينجبها لمن يقرر ألا يستسلم. القوة هي ذلك القرار الواعي بالنهوض مرة أخرى مهما كان السقوط مدوياً. إنها الإيمان بأن كل صدع في الروح هو في الحقيقة منفذ ليدخل منه الضوء.
لا تخجل من لحظات ضعفك، فهي ليست النهاية، بل هي اللحظة التي تسبق الانفجار العظيم لقوتك الكامنة. تذكر دائماً: “الضوء لا يدخل الغرفة إلا من خلال الشقوق”.
”ما لا يكسرني، يجعلني أقوى.” — فريدريك نيتشه
