مقالات

رفح تُباد… وأمة كاملة تُخمد صوتها

بقلم: السيد عيد

رفح لم تعد مدينة… إنها عنوان جديد لجريمة مفتوحة، مشهد من الجحيم يتكرر كل ساعة، رواية موت تُكتب بحبر أحمر على جدران الصمت العربي. هناك، لا تُدفن الجثث تحت التراب، بل تُعرض في الهواء الطلق كشهادة ضد الإنسانية، وضدنا جميعًا.

في رفح، لا يبحث الناس عن حياة، بل عن أجزاء من جثثهم. طفلٌ مقطوع الرأس تُحمله أمه كدمية محشوة بالرصاص. أبٌ يجمع أشلاء زوجته وأبنائه الأربعة في كيس بلاستيكي، ويسير بهم إلى مقبرة لم تعد تتسع حتى للغضب.

رفح تُقصف بالصواريخ، تُجرف بالجرافات، تُحاصر بالجوع والخوف. لا ماء، لا كهرباء، لا دواء… فقط قائمة انتظار للموت. الأحياء تحت الأنقاض أكثر من الذين يمشون فوقها، والذين يمشون لا يعلمون هل ينجون، أم أن القذيفة القادمة ستعيدهم إلى العدم.

ما يحدث ليس نزوحًا طارئًا، بل تهجير مدروس. خريطة الطرد تُرسم بالدخان، والقرارات تخرج من فوهات البنادق. يُطلب من العائلات الرحيل “إلى الأمان”، ثم يُقصف الأمان. حتى الخيام صارت أهدافًا، حتى الأطفال صاروا تهديدًا أمنيًا. مليون إنسان يُدفعون نحو العدم، في سابقة لم يعرفها التاريخ الحديث بهذا القدر من العلنية.

الأنظمة العربية ما زالت تمارس رياضة الصمت، بتصريحات محسوبة ومنمقة كأنها شعارات شركات تأمين. “نُدين بحزم”، “نطالب بضبط النفس”، “نتابع بقلق”… كل هذا يحدث بينما تُدفن العائلات الفلسطينية جماعيًا، ويُهجّر الشعب كأنه فائض سكاني يجب تصفيته.

أما الزعماء؟ فهم في مؤتمرات تكييفها أعلى من حرارة الغضب، يصافحون القتلة بابتسامات مدروسة، ويتجنبون “إحراج” المجتمع الدولي… حفاظًا على علاقات استراتيجية أهم من دماء الأطفال.

الشعوب العربية، المقهورة على جبهات الاقتصاد والقمع، تتفرج بحسرة، لكنها لا تتحرك. البعض سجنته لقمة العيش، والبعض الآخر سجن نفسه في قوقعة اللاجدوى. أصبح موت الفلسطيني مشهدًا مألوفًا، لا يوقظ دمعة، ولا يحرّك نخوة، وكأننا في موسم درامي متكرر نهايته محفوظة.

رفح لا تحتاج خطبًا، ولا مؤتمرات طارئة، ولا منشورات بلون العلم. هي تريد فقط أن لا تُباد أمام مرأى أمة تدّعي الشرف. تريد من يعترف أن كل هذا لم يكن قدرًا، بل خيانة موثقة، وجبن مقنّن، وصفقات تتم على أنقاضها.

رفح لا تحترق وحدها، بل تحترق فيها خرائط الشرف العربي، وتنهار فيها جدران الرجولة المصطنعة. سيأتي يوم، يفتح فيه طفل ناجٍ دفتر المجازر، ويسأل:
“أين كنتم حين سُحقت مدينتي؟ أين كانت نخوتكم حين صار جسدي ملعبًا للصواريخ؟”
وكل ما سنملكه آنذاك… هو الخجل.
أو على الأرجح، لن نملك حتى ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى