تقارير

أنبانمان… بطل الطفولة الياباني الذي أراد أن يزرع الحب في قلوب الجميع

د/ حسين السيد عطيه

– انبانمان- ….. هو أحد أشهر مسلسلات الأنمي بين الأطفال الصغار في اليابان . يتتبع المسلسل مغامرات أنبانمان، وهو بطل خارق برأس أنبان وهي (معجنات محشوة بعجينة الفاصوليا الحمراء )، يحمي العالم من جرثومة شريرة مجسمة تُدعى بايكينمان .

لم يكن أنبانمان مجرد شخصية كرتونية لطيفة للأطفال، بل كان تجسيدًا لرؤية إنسانية عميقة حملها الفنان ياناسي تاكاشي، الذي تحوّل إلى رمز ثقافي في اليابان. بشعره البني ووجهه المستدير المصنوع من خبز الفاصوليا الحلوة، وردائه الأحمر الشجاع، دخل أنبانمان قلوب الملايين، وخاصة الصغار منهم، حاملاً رسائل التضحية، والعدالة، والعطاء. غير أن ما يضفي على هذه الشخصية بعدًا أكثر تأثيرًا هو أن ملامحها لم تولد من فراغ، بل نُسجت من تجارب ياناسي الشخصية المؤلمة خلال الحرب، والتي دفعته لإعادة تخيّل البطولة بمعايير مختلفة تمامًا—حيث لا تكمن القوة في السلاح، بل في القدرة على إطعام الجائع ومواساة الضعيف.

بطل غير تقليدي

تنوعت مسيرة ياناسي تاكاشي خلال حياته الطويلة، فقد كان جنديًا، شاعرًا، رسامًا، ومؤلفًا. لكنه اشتهر بابتكاره لشخصية أنبانمان، البطل الخارق المحبوب في اليابان، الذي يتميز بردائه الأحمر ورأسه المصنوع من خبز محشو بمعجون الفاصوليا الحلوة.

يحظى أنبانمان بحب الأطفال الصغار بفضل شجاعته وإيثاره. فهو بطل غير تقليدي يمتلك قدرات خارقة، لكن قوته تعتمد بشكل وثيق على سلامة رأسه المصنوع من خبز الفاصوليا. أي تعرض للماء أو خدش بسيط قد يضعف قواه ويعيقه عن أداء مهامه البطولية، إلى أن يخبز العم ”جام“ رأسًا جديدًا له يعيد إليه عافيته. ورغم لحظات الضعف التي قد تصيبه، لا يتردد أنبانمان في التحليق لإنقاذ الآخرين ومساعدة المحتاجين. فهو لا يكتفي بمحاربة الشرير بايكينمان، بل يجسد أسمى معاني الرحمة والكرم، حيث يقدم طوعًا جزءًا من رأسه لإطعام الجائعين، فيسكت معاناتهم.

لكن جذور شخصية أنبانمان تنبع من جانب أكثر قتامة في حياة ياناسي، وهي تجربته في الحرب. فقد عاش الحرمان والدمار خلال خدمته في الجيش الإمبراطوري الياباني في الصين، وهي تجربة شكلت رؤيته للحياة وفهمه للإنسانية والبطولة.

في أوائل عام 2013، وقبل وفاته في نفس العام عن عمر 94 عامًا، أجريت عدة مقابلات مع ياناسي تاكاشي لإعداد كتاب عن سيرته الذاتية وتجربته في الحرب. كان يتحدث بعفوية وعمق عن تجاربه الشخصية، رؤيته للحياة، وطباع النفس البشرية. وأعرب ذات مرة عن اقتناعه بأن الحروب تنشأ أساسًا من الطمع، قائلًا: ”تمتلك الدول أراضي وموارد، لكن عندما يتغلب جشعها على قدراتها، يبدأ قادتها بالتطلع إلى ممتلكات جيرانهم، وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى الحرب“.

من خلال شخصية أنبانمان، سعى ياناسي إلى تجسيد أفكاره العميقة. فبقدرته على إطعام من حوله، يقف أنبانمان رمزًا مناهضًا للجشع. عندما يقدم جزءًا من رأسه لإطعام الجائعين، لا يخفف من ألم الجوع فحسب، بل يواجه أحد أبرز أسباب الحروب، وهو الطمع البشري، مرسمًا طريقًا نحو عالم أكثر رحمة يمنح الناس لحظات من الطمأنينة بعيدًا عن ضغوط الحاجة والحرمان.

حياة مبكرة

وُلد ياناسي تاكاشي عام 1919، وقضى سنواته الأولى في مسقط رأسه مدينة كوتشي. تميزت طفولته بغياب والده، الذي كان يعمل مراسلًا صحفيًا ويقضي معظم وقته في طوكيو، قبل أن يتوفى بسبب المرض أثناء مهمة عمل في شنغهاي. وبعد زواج والدته مرة أخرى، أُرسل ياناسي وشقيقه الأصغر تشيهيرو للعيش مع عمه، وهو طبيب يمتلك عيادة خاصة.

ساهمت موهبته الفنية في التحاقه بكلية الفنون الصناعية في طوكيو لدراسة التصميم. وبقي في العاصمة بعد تخرجه ليعمل في قسم الإعلانات بشركة أدوية. لكن مسار حياته تغير مع دخول اليابان الحرب، إذ تم تجنيده في الجيش عام 1941 وهو في الثانية والعشرين من عمره. بدأ خدمته في كوكورا بجزيرة كيوشو، ثم نُقل عام 1943 إلى فوزهو في الصين. هناك، كُلف بتشفير وفك تشفير الرسائل، وشارك في حملات دعائية لكسب تأييد السكان المحليين، بما في ذلك كتابة وأداء عروض ”كاميشيباي“، وهو فن ياباني تقليدي لرواية القصص باستخدام لوحات مصورة.

عقب هزيمة اليابان، وجد ياناسي نفسه، مثل آلاف الجنود اليابانيين، في خضم الفوضى والمصير المجهول. أثناء تراجعه مع وحدته العسكرية نحو شنغهاي، تعرضوا لكمين من القوات الصينية. عايش ياناسي أهوال القصف والانفجارات والرصاص المتطاير الذي حصد أرواح الكثيرين من الجانبين. ورغم نجاته من تلك المذبحة، تركت مشاهد القتل العبثي أثرًا عميقًا في نفسه، وغذت شعوره بالرفض والاشمئزاز من الحروب.

عندما وقع ياناسي في الأسر، وخلال احتجازه في ضواحي شنغهاي، أُصيب بالملاريا التي أنهكت جسده، إلى جانب ما عاناه من الجوع. يروي أنه، لترشيد المؤن الشحيحة، حُصرت وجباتهم في حصتين يوميتين من عصيدة الأرز الرقيقة. اضطر ياناسي إلى جمع أعشاب الأرض وأكلها لتخفيف آلام معدته الخاوية. ظلت هذه التجربة القاسية محفورة في ذاكرته، وشكلت ركيزة إنسانية عميقة انعكست في أعماله الإبداعية.

في كتابه الصادر عام 2013 بعنوان أنا أكره الحرب (Boku wa Sensō wa Daikirai), وصف ياناسي كيف حولت الهزيمة رفاقه الجنود إلى مجموعة بائسة من البشر، وعلق قائلًا: ”جُردنا جميعًا، حتى الضباط الكبار الذين كانوا يتباهون بسلطتهم، من شارات الرتب والمناصب. تحولنا من جنود إلى مجرد مجموعة من القرويين العزل المتكدسين معًا. ثم نُقلنا في وسائل نقل أعادتنا إلى حيث أتينا“.

البحث عن معنى الحياة

عاد ياناسي إلى كوتشي عام 1946، ليتلقى صدمة مقتل شقيقه الأصغر تشيهيرو، وهو ضابط مبتدئ في البحرية، قبالة سواحل الفلبين. كانت خسارة شقيقه، الذي يصغره بعامين، ضربة قاسية أثقلت كاهله، إلى جانب تجاربه الحربية.

وجد ياناسي صعوبة في استيعاب فكرة أنهم، كجنود، كانوا مطالبين بالتضحية بكل شيء دفاعًا عما ادعى القادة العسكريون أنه قضية عادلة. بدا له الجنود أبطالًا مثيرين للشفقة، يلاحقون عدالة وهمية انهارت بانتهاء الحرب، لتُستبدل بمفاهيم مختلفة تمامًا عن الخير والشر. أدخله هذا التحول في صراع داخلي طويل للبحث عن المعنى الحقيقي للبطولة والعدالة، وهي تأملات دفعته بقوة إلى ابتكار شخصية أنبانمان.

عند كتابة كلمات نشيد أنبانمان المفعم بالحماس، والذي أصبح الأغنية الرئيسية للنسخة المتحركة من السلسلة، طرح ياناسي تساؤلات وجودية مؤثرة: ”لماذا وُلدت؟“ و”ماذا ينبغي أن أفعل بحياتي؟“ ورغم أنه لم يزعم يومًا أن لهذه الكلمات مغزى خفي، يمكن للمستمع أن يلمح فيها نبرة تأبينية، كأنها تحية خفية لشقيقه تشيهيرو ولجميع الأرواح التي أزهقتها الحرب العالمية الثانية.

في كتابه أنا أكره الحرب، عبر ياناسي عن أمله في سلام دائم

النجاح المتأخر

بعد الحرب، استقر ياناسي في مسقط رأسه كوتشي وعمل في القسم التحريري لمجلة شهرية تصدرها صحيفة كوتشي شيمبون المحلية. هناك التقى بزوجته المستقبلية كوماتسو نوبو، التي كانت مصدر إلهام ودعم كبير له. تزوجا عام 1947 وانتقلا للعيش في طوكيو، حيث استقرا في شقة صغيرة يملكها أحد أصدقائهم.

كانت طوكيو لا تزال تحمل ندوب الحرب وتعاني من نقص في المواد الغذائية، لكن ياناسي تمكن من توفير متطلبات الحياة من خلال العمل في وظائف متنوعة، بما في ذلك العمل في مكتب العلاقات العامة لمتجر ميتسوكوشي الشهير ورسم المانغا للصحف والمجلات. بدعم زوجته نوبو، بدأ العمل الحر عام 1953، واكتسب سمعة كفنان متعدد المواهب. تنوعت إسهاماته بين تصميم ديكورات المسرح، كتابة كلمات الأغاني للعروض المسرحية، الظهور على التلفزيون، ابتكار شخصيات لأفلام الرسوم المتحركة، وتولي منصب رئيس تحرير مجلة أدبية. ورغم شهرته، كان ياناسي يأسف لعدم تحقيقه نجاحًا كبيرًا يحمل بصمته الخاصة.

شهد عام 1973 تحولًا بارزًا في مسيرته مع ظهور شخصية أنبانمان. نُشرت قصة هذا البطل ذي الرأس المصنوع من خبز الفاصوليا ضمن سلسلة كتب قصص الأطفال الشهرية الصادرة عن دار فرويبل-كان. لكن الاستقبال الأولي من البالغين كان فاترًا، وقوبلت القصة بانتقادات، خاصة من معلمي رياض الأطفال الذين وصفوا الشخصية بأنها ”سخيفة وقاسية“. وبدا أن العمل مصيره الفشل بعد طبعة واحدة فقط، حتى إن محرري ياناسي صنفوه ضمن الأعمال غير الناجحة.

لكن استجابة الأطفال الصغار كانت مختلفة تمامًا. فقد أسرت شخصية أنبانمان قلوب أطفال مرحلة ما قبل المدرسة بروحها البطولية وسعيها الدؤوب لنشر السعادة. وسرعان ما أصبح الكتاب من القصص المفضلة في دور الحضانة، وهو ما اكتشفه ياناسي عندما أخبره صاحب محل كاميرات بأن طفله يصر على قراءة القصة كل ليلة قبل النوم.

في عام 1975، كتب ياناسي أولى تتمات القصة بعنوان هيا بنا أنبانمان (Soreike Anpanman)، وتبعتها أجزاء أخرى. ومع تزايد شعبية أنبانمان، أُطلقت النسخة المتحركة من السلسلة عام 1988. ورغم عرضها في وقت غير مناسب (الخامسة مساءً) وفي منطقة طوكيو الكبرى فقط، ارتفعت تقييماتها بسرعة وأصبحت تُبث على مستوى اليابان، ليصبح أنبانمان اسمًا مألوفًا في كل بيت. منح هذا النجاح ياناسي، الذي كان يبلغ 69 عامًا آنذاك، فرحة النجاح الذي طالما سعى إليه.

 

بطل متواضع

سُئل ياناسي ذات مرة عن سبب اختياره لصنع بطل من شيء بسيط مثل خبز الفاصوليا، فأجاب ببساطة أن هذا الخبز يحمل قيمة أكبر مما يبدو. وقال: ”إنه خبز ياباني مميز، رخيص ومتوفر بكثرة. يتمتع بفترة صلاحية جيدة، مما يجعله خيارًا مشبعًا ومغذيًا كوجبة خفيفة أو حتى كطوق نجاة لمن هم في أمس الحاجة إلى الطعام.“

تكمن شعبية أنبانمان بين الأطفال الصغار في الألفة والتنوع الذي يتمتع به خبز الفاصوليا، وهو ما يتجلى في مبيعات كتب السلسلة. فوفقًا لبيانات عام 2018 من شركة توهان للنشر والتوزيع، تجاوزت مبيعات الكتب الأصلية التي كتبها ياناسي، إلى جانب تلك المستندة إلى حلقات المسلسل المتحرك، 81 مليون نسخة إجمالًا.

ومع تقدم السلسلة، أضاف ياناسي تدريجيًا مجموعة من الشخصيات المساندة، مستلهمة من أنواع الخبز الشعبية وغيرها من الأطعمة المحببة. في عام 2009، احتفلت السلسلة المتحركة ببلوغها الحلقة الألف، مسجلة رقمًا قياسيًا عالميًا بـ1768 شخصية. كما تتميز السلسلة بشخصية بايكينمان، العدو اللدود لأنبانمان. فهو شخص ماكر ومشاغب لا يُهزم نهائيًا، لكن أنبانمان يقرر قبوله كجزء من عالمهم، وبدلاً من القضاء عليه، يختار صرفه بلكمة ”آنبانتش“ الشهيرة، التي تقذف بايكينمان بعيدًا ليعود في يوم آخر.

إرث خالد

توفي ياناسي تاكاشي في أكتوبر/تشرين الأول 2013 عن عمر 94 عامًا، تاركًا بصمة وأثرًا في قلوب الملايين من خلال أعماله وكلماته. وتكريمًا لمسيرته، اجتمع الأصدقاء والزملاء في فعاليات عديدة للاحتفاء بهذا الكاتب العظيم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى