
جمال حشاد
يُعد يوسف وهبي واحداً من أعمدة المسرح والسينما في العالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين. وُلد في الفيوم عام 1898 وتخرّج من المدرسة الابتدائية هناك، قبل أن يتجه إلى دراسة الفنون المسرحية والسفر إلى إيطاليا ليتتلمذ على يد كبار المخرجين والممثلين الأوروبيين. عُرف وهبي بجرأته الفنية وبتقديمه لموضوعات معقدة ومثيرة للجدل، وامتلك القدرة على تطويع النصوص العالمية وتقديمها بروح مصرية وعربية. ومن بين المسرحيات التي تركت أثراً بارزاً في مسيرته مسرحية “راسبوتين ومعجزاته”، التي مثّلت ذروة تجربته في تقديم شخصيات تاريخية غامضة ومعقدة.
غريغوري راسبوتين الراهب الروسي الشهير في مطلع القرن العشرين، كان شخصية جدلية ارتبط اسمه بالتصوف والسحر والشعوذة في البلاط الروسي. عُرف بقدرته على التأثير العجيب على القيصرة ألكسندرا، أم ولي العهد المريض بالهيموفيليا، حيث شاع أنه يمتلك قوى خارقة تمكّنه من شفاء المرضى والتنبؤ بالمستقبل. وقد تحوّل اسمه إلى رمز للغموض والتداخل بين الدين والسياسة والسحر. هذه السيرة الاستثنائية جذبت الأدباء والفنانين حول العالم، وكان من الطبيعي أن تستوقف فناناً بحجم يوسف وهبي.
قدم يوسف وهبي مسرحية “راسبوتين ومعجزاته” في ثلاثينيات القرن العشرين تقريباً، حين كان المسرح المصري في أوج ازدهاره. لم يكن اختياره لهذا النص اعتباطياً، بل جاء ليؤكد توجهه نحو تقديم أعمال ذات طابع فلسفي وفكري، تجمع بين التاريخ والسياسة والروحانية. المسرحية تناولت صعود راسبوتين في البلاط الروسي، علاقته بالقيصرة، وكيف تحوّل من راهب فقير إلى صاحب نفوذ هائل يثير الرعب في قلوب النبلاء.
وفي تجسيده لشخصية راسبوتين، ركّز يوسف وهبي على إبراز التناقضات الإنسانية: فهو رجل دين في الظاهر، لكنه يمارس نفوذاً دنيوياً ساحقاً، وهو مزيج بين الزهد والشهوة، بين القداسة والدجل. هذه الازدواجية جعلت الدور فرصة مثالية لإظهار قدراته التمثيلية الكبيرة في تقمص الأدوار المركبة.
ما ميّز العرض بشكل خاص طريقة تصوير”المعجزات” التي يقوم بها راسبوتين. اعتمد وهبي على تقنيات مسرحية مبتكرة آنذاك، منها استخدام الإضاءة لتجسيد الهالات الغامضة، والمؤثرات الصوتية لإضفاء جو من الرهبة، فضلاً عن الأداء الجسدي والصوتي الذي أضفى على الشخصية مسحة من الغموض والخوف. وقد استطاع أن يخلق على الخشبة مناخاً درامياً يوحي بأن الجمهور أمام رجل خارق للعادة، رغم أن كل ما يُرى في الحقيقة ليس سوى فن وإيهام مسرحي.
من أبرز المشاهد التي أثارت إعجاب المتفرجين مشهد شفاء ولي العهد الروسي على يد راسبوتين، حيث بدت الانفعالات الصادقة على وجه يوسف وهبي وكأنها تنقل قوة روحانية حقيقية، بينما كان المشهد في جوهره عملاً مسرحياً مدروساً بعناية.
لم تكن مسرحية “راسبوتين ومعجزاته” مجرد مسرحية تاريخية للتسلية، بل كانت تحمل أبعاداً سياسية وفكرية. يوسف وهبي أراد من خلالها أن يطرح سؤالاً حول خطورة خلط الدين بالسياسة، واستغلال الجهل الشعبي لتحقيق مصالح شخصية. شخصية راسبوتين في المسرحية لم تكن مجرد صورة من الماضي الروسي، بل رمزاً عالمياً للتحذير من الدجالين الذين يتسترون بعباءة الدين لتحقيق النفوذ.
وهنا تتجلى براعة يوسف وهبي في ربط النصوص العالمية بواقع الجمهور المصري والعربي. فقد كان المشاهد يخرج من المسرح وهو يفكر في واقع مجتمعه: هل بيننا “راسبوتين” آخر؟ وكيف يمكن للناس أن يميزوا بين المعجزة الحقيقية.
ساهمت مسرحية “راسبوتين ومعجزاته” في ترسيخ مكانة يوسف وهبي كفنان مثقف قادر على تقديم موضوعات معقدة بأسلوب ممتع. نالت المسرحية إعجاب النقاد والجمهور على السواء، لأنها جمعت بين التشويق الدرامي والطرح الفكري. كما ساعدت في تأكيد صورة يوسف وهبي كـ”فنان شامل”، إذ لم يكتف بالتمثيل، بل كان يدير الفرقة ويشرف على الإخراج والديكور.
لقد شكلت المسرحية نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه المسرح العربي: مساحة للتأمل والنقاش الفكري، وليس مجرد وسيلة للترفيه. ومن هنا جاءت قيمتها التاريخية، فهي واحدة من المحطات التي جعلت المسرح المصري في ذلك الوقت مدرسة حقيقية للفن العربي.
إن مسرحية “راسبوتين ومعجزاته” ليوسف وهبي تمثل أكثر من مجرد عمل مسرحي، فهي نافذة على قضايا السلطة والدين والخداع التي ما زالت تتكرر في كل زمان ومكان. عبقرية يوسف وهبي تجلت في قدرته على استحضار شخصية أسطورية معقدة وتقديمها على خشبة المسرح بلغة يفهمها الجمهور العربي، لتصبح رسالة فنية وفكرية عابرة للحدود. لذلك بقيت هذه المسرحية علامة بارزة في تاريخه وفي تاريخ المسرح العربي عموماً، ودليلاً على أن الفن حين يواجه الأسئلة الكبرى للوجود والسلطة والدين، فإنه يتحول إلى رسالة إنسانية خالدة.