
دارين عوض
في زمن حكمت فيه الذكاء والحنكة على القوة، برزت واحدة من أعظم نساء التاريخ في مصر القديمة. إنها حتشبسوت، المرأة التي لم تكن مجرد ملكة، بل كانت فرعونًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لقد استطاعت أن تكسر حاجز التقاليد وتتجاوز الأعراف لتصبح واحدة من أقوى الحكام في الأسرة الثامنة عشرة، وخلدت اسمها في صفحات التاريخ ليس بجمالها أو أنوثتها، بل بقوتها، حكمتها، وإنجازاتها العظيمة.
صعود فرعون امرأة
ولدت حتشبسوت في عام 1508 قبل الميلاد تقريبًا، وهي ابنة الملك تحتمس الأول. بعد وفاة والدها، تزوجت من أخيها غير الشقيق، تحتمس الثاني، الذي ورث العرش. لكن فترة حكمه كانت قصيرة، وبعد وفاته، كان الوريث الشرعي هو ابنه الصغير، تحتمس الثالث. هنا، بدأت حتشبسوت رحلتها نحو السلطة. بصفتها الوصي على العرش، استغلت حتشبسوت نفوذها وقدراتها السياسية، وأعلنت نفسها فرعونًا على مصر، متجاوزة الوريث الشرعي.
لم يكن هذا الأمر سهلًا، فقد كان الحكم حكرًا على الرجال. ولإثبات شرعيتها، ادعت حتشبسوت أنها ابنة الإله آمون، وأمرت النحاتين برسمها كفرعون ذكر، مرتدية اللحية الملكية والتاج المزدوج، وهو ما كان ضروريًا لقبول الشعب والكهنة حكمها.
عصر من السلام والرخاء
تميز عهد حتشبسوت، الذي استمر لأكثر من عشرين عامًا، بالسلام والازدهار. كانت تفضل التجارة والبناء على الحروب والغزوات، وهو ما جعل مصر تعيش فترة من الرخاء الاقتصادي والثقافي غير المسبوق.
من أبرز إنجازاتها:
* رحلة بونت: نظمت حتشبسوت واحدة من أشهر الرحلات التجارية في التاريخ إلى بلاد بونت (الصومال حاليًا). عادت هذه الرحلة محملة بالثروات النادرة مثل البخور، والمر، والأشجار الغريبة، وهو ما فتح آفاقًا جديدة للتجارة وأظهر قوة مصر الاقتصادية.
* المشاريع المعمارية الضخمة: تعتبر حتشبسوت من أعظم بناة مصر القديمة. شيدت العديد من المسلات العملاقة، وأضافت إلى معبد الكرنك، لكن تحفتها المعمارية الأبرز هي معبد الدير البحري في الأقصر. هذا المعبد، المعروف بتصميمه الفريد، يروي على جدرانه قصة حياتها، ورحلة بونت، وعلاقتها بالآلهة.
إرث محى ثم أعيد اكتشافه
بعد وفاة حتشبسوت، قام وريثها تحتمس الثالث بمحو اسمها وصورها من العديد من الآثار والنقوش، ربما لمحاولة إعادة الشرعية الكاملة لحكم الرجال أو لتأكيد سلطته. لقد أصبحت حتشبسوت “الفرعون المفقود” لفترة طويلة، وظل تاريخها مدفونًا تحت الأنقاض.
لكن جهود علماء الآثار في العصور الحديثة أعادت اكتشاف حتشبسوت، وأعيد لها مكانتها المستحقة كواحدة من أعظم وأقوى حكام مصر القديمة. إن قصتها تظل مصدر إلهام، فهي ترمز إلى قوة المرأة، وقدرتها على تحقيق المستحيل، وأن القيادة لا تعرف جنسًا، بل تعرف فقط العقل والحكمة. لقد أثبتت حتشبسوت أن الحاكم الحقيقي هو من يصنع السلام والرخاء، ويترك إرثًا من الإنجازات يتحدث عنه عبر الأجيال.