بقلم : أحمد رشدي
يأتي كتاب 1929 لأندرو روس سوركين، مؤلف الكتاب الأشهر «أكبر من أن يُترك للفشل»، ليقدّم معالجة سردية لافتة لأشهر انهيار في تاريخ أسواق المال، ذلك الانهيار الذي ما زالت ارتداداته تُلقي بظلالها الثقيلة على الاقتصاد العالمي حتى اليوم. سوركين، الذي وصفته مجلة «ذا أتلانتيك» بأنه صاحب «التاريخ الشامل للأزمة المصرفية لعام 2008»، يعود بهذه المرة إلى الجذور الأولى للفوضى المالية الحديثة، حيث وُلدت أساطير الصعود والانكسار في قلب وول ستريت.
في عام 1929 وقف العالم مذهولًا أمام انهيار سوق الأسهم الأمريكية بعد سنوات من الازدهار الصاروخي، لتتبخر ثروات هائلة في أيام معدودة، ويُفتح الباب على مصراعيه لكساد عظيم أعاد تشكيل مصائر جيل كامل. غير أن سوركين لا يكتفي بسرد الوقائع المعروفة أو الأرقام الصماء، بل ينفذ إلى ما وراء شاشات التداول وضجيج القاعات، كاشفًا عن دراما إنسانية كثيفة عاشها أصحاب رؤى جامحة ومغامرون بلا حدود، محتالون وحالمون، نشوة جماعية انتهت إلى خراب شامل.
استنادًا إلى سجلات تاريخية ووثائق كُشف عنها حديثًا، يأخذنا المؤلف في رحلة عميقة إلى قلب الفوضى، حيث تتقاطع الطموحات الشخصية مع السياسات العامة، وتندلع معركة شرسة بين وول ستريت وواشنطن حول النفوذ والإنقاذ والمسؤولية. شخصيات نافذة، قادها وهم الازدهار الأبدي وسذاجة الثقة المطلقة، اندفعت نحو هاوية لم ترَ إشارات التحذير التي كانت تومض بوضوح.
اللافت في «1929» أنه لا يعامل الانهيار بوصفه حادثة منتهية في كتب التاريخ، بل مرآة صادمة لواقعنا المعاصر؛ فالتشابه بين تلك الحقبة وزمننا الحالي مقلق إلى حد بعيد: أسواق ترتفع بلا سقف واضح، توترات سياسية متصاعدة، وصراع متجدد على السلطة المالية. وكأن الكتاب يقول إن التاريخ لا يعيد نفسه حرفيًا، لكنه يكرر أنماطه بقسوة.
ليس هذا الكتاب حكاية عن المال فحسب، بل دراسة عميقة في السلطة، وعلم النفس الجمعي، وإغواء الصعود السريع، والثمن الباهظ لتجاهل أجراس الإنذار. يروي سوركين قصص ممولين سقطوا من عليائهم، ومتشككين رأوا العاصفة قبل أن تضرب، لكن أصواتهم ضاعت وسط صخب الطمع.
بهذا العمل، يرسخ أندرو روس سوركين مكانته كأحد أبرز من أعادوا صياغة سرد الأزمات المالية، حيث يجمع بين الدقة البحثية والقدرة السردية المشوقة. وقد حظي «1929» بمكانة بارزة على قوائم نيويورك تايمز لعام 2025، واختير ضمن الكتب المفضلة للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، كما نال لقب أفضل كتاب لعام 2025 من مجلات تايم، والإيكونوميست، وإير ميل، وبلومبيرج، وهيستوري، فضلًا عن اكتساحه قوائم الأكثر مبيعًا.
في المحصلة، لا يُقرأ «1929» بوصفه سجلًا تاريخيًا جامدًا، بل كدليل إرشادي لفهم دورات المضاربة، والقوى الخفية التي تشعل الاضطرابات المالية، والعلامات التحذيرية التي نتجاهلها على مسؤوليتنا. إنه كتاب جريء ومثير عن أهم انهيار سوقي في التاريخ، ودروسه لا تزال ملحّة، وربما أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
