بقلم د.نادي شلقامي
في كل مؤسسة أو مصلحة تسعى للنهوض والتقدم، يوجد محرك يدفعها إلى الأمام، ولكنه في الوقت ذاته، قد يواجه قوة معاكسة تسعى لتعطيله. هذه القوة، التي غالبًا ما تتخفى خلف ستار الروتين أو “الحفاظ على الاستقرار”، هي ما يُعرف بـ “مراكز القوة المُعطّلة”. إنها شبكات نفوذ غير رسمية أو أفراد مستفيدون من الوضع الراهن، يعملون كـ “مكابح” على “قطار التقدم”، مما يهدد الكفاءة، ويقتل الإبداع، ويزيد التكلفة على المجتمع والدولة. هذا التقرير الطويل يسلط الضوء على هؤلاء المعرقلين، يكشف أثرهم السلبي، ويقدم خريطة طريق لكيفية اكتشافهم، تحييدهم، والتخلص منهم لضمان استمرار مسيرة التنمية.
أولاً…: الأثر السلبي المدمر لمراكز القوة المُعطّلة
تأثير هذه المراكز لا يقتصر على تأخير معاملة أو قرار، بل يمتد ليشكل عائقاً بنيوياً أمام التطور المؤسسي والوطني:
1- تجميد الإبداع والتطوير: تقاوم بشدة أي تغيير أو إصلاح يهدد مصالحها، حتى لو كان التغيير لمصلحة المؤسسة. يتمثل ذلك في عرقلة مشروعات التحول الرقمي، أو تبسيط الإجراءات، أو تطبيق معايير الجودة العالمية.
2- تراجع الكفاءة وهدر الموارد: تؤدي مقاومتها للتغيير إلى الإبقاء على أنظمة قديمة وبيروقراطية معقدة، مما يستهلك وقت وجهد الموظفين والمراجعين، ويزيد من هدر الموارد المالية والبشرية.
3- انتشار ثقافة الإحباط: يخلق وجودهم بيئة عمل سامة حيث يشعر الموظفون المُجدّون بأن جهودهم تُواجَه بالجدران، مما يؤدي إلى انخفاض الدافعية والإنتاجية العامة.
4- تشويه اتخاذ القرار: تعمل على تضليل متخذي القرار أو تقديم معلومات منقوصة أو منحازة لضمان تمرير قرارات تخدم مصالحها الخاصة على حساب الصالح العام.
ثانياً…: أسباب وجود مراكز القوة المُعطّلة
ينبع وجود هذه المراكز من عوامل هيكلية وسلوكية متجذرة:
1- المصالح الشخصية والمكتسبة (البقاء في منطقة الأمان):
1-1- الخوف من فقدان النفوذ: يخشى هؤلاء الأفراد أن يؤدي أي نظام جديد أو شفاف إلى تجريدهم من السلطة غير الرسمية أو “المعلومة الحصرية” التي يستخدمونها لفرض سيطرتهم.
1-2- المكاسب غير المشروعة: قد تكون هذه المراكز مرتبطة بنظم فاسدة تتيح لها الحصول على منافع مادية أو وظيفية غير مستحقة (كأنظمة المشتريات المعقدة أو التعيينات غير الشفافة).
2 الفشل الإداري في تطبيق الشفافية:
2-1- غياب الحوكمة الفعالة: ضعف آليات الرقابة والمساءلة يُتيح الفرصة لتنامي هذه المراكز في الظل.
2-2- مركزية اتخاذ القرار: عندما تتركز السلطة في يد قلة، يسهل عليهم تكوين لوبيات ضغط غير رسمية.
3- العوامل الثقافية والتاريخية:
3-1- ثقافة مقاومة التغيير: يفضل البعض التمسك بما هو مألوف خوفًا من المجهول، وهو ما تستغله مراكز القوة لتبرير تعطيل الإصلاحات تحت مسمى “الاستقرار”.
ثالثاً…: كيفية اكتشاف وتحديد مراكز القوة الخفية..
الكشف عن هذه المراكز يتطلب يقظة وتركيزًا على السلوكيات غير المبررة والأنماط المعيقة، ويمكن ملاحظتها عبر المؤشرات التالية:
أ. مؤشرات الأداء والعمليات:
1- التباطؤ غير المبرر: ملاحظة وجود تباطؤ متعمد وغير منطقي في سير المعاملات أو قرارات أساسية، خاصة تلك المرتبطة بالإصلاح أو التغيير.
2- الإفراط في طلب البيانات: طلب كميات هائلة من الوثائق والمعلومات غير الضرورية لتأخير إحالة الملفات أو القرارات، مما يخلق تعقيدًا مصطنعًا.
3- فشل مشاريع التحسين: التتبع الدقيق لمشاريع التطوير أو الأتمتة التي تبدأ بحماس ثم تتعثر وتفشل فجأة دون سبب فني واضح.
ب. مؤشرات السلوك والتأثير غير الرسمي:
1- التناقض بين الخطاب والفعل: دعم بعض الأفراد للإصلاحات علنًا، ثم العمل على تقويضها سرًا من خلال اللجان الداخلية، أو التقارير المنحازة، أو تضخيم المشكلات.
2- علاقات النفوذ غير الرسمية: وجود موظفين بسلطة وظيفية منخفضة نسبيًا، ولكنهم قادرون على تجاوز التسلسل الهرمي أو التأثير على قرارات كبار المسؤولين.
3- تهميش المجددين والمتحمسين: ملاحظة تهميش أو وضع الموظفين ذوي الأداء العالي والذين يدعون إلى التغيير والإبداع في مواقع “ثلاجة العمل” لقتل دافعيتهم.
4- نشر ثقافة الشكوى والمبالغة: الانتشار المستمر للإشاعات السلبية حول فشل أي مبادرة جديدة حتى قبل تطبيقها، والمبالغة في تصوير الصعوبات الفنية والمالية للإصلاح
رابعاً…: تحييد مراكز القوة وكيفية التخلص منها
تحتاج مواجهة هذه المراكز إلى استراتيجية متعددة المستويات، تجمع بين الإصلاح الهيكلي والإجراءات الحازمة:
1- تعزيز الشفافية والحوكمة (التحييد بالضوء):
1-1- تطبيق نظام الأتمتة الشامل: التحول الرقمي يكسر قوة “الموظف المفتاحي” الذي يحتكر المعلومة والإجراء، مما يجعل العمليات شفافة وآلية.
1-2- إقرار مبدأ تدوير المناصب (Rotation): تدوير المسؤولين في المناصب الحساسة يمنع تجذر المصالح وتكوين شبكات النفوذ طويلة الأمد.
1-3- إنشاء قناة “بلاغ” آمنة: توفير آلية سرية وفعالة للإبلاغ عن أي محاولات لتعطيل العمليات أو شبهات فساد دون خوف من الانتقام.
2 – المواجهة الإدارية والقانونية (التطهير الحازم):
أ- العزل الحكيم: نقل الأفراد الأكثر تأثيراً في هذه المراكز إلى مواقع لا تسمح لهم بتعطيل مسار الإصلاح، أو إحالتهم للتحقيق عند وجود أدلة واضحة على التقصير المتعمد.
ب- المكافأة والتحفيز: مكافأة الفرق والموظفين الذين يتبنون التغيير والإصلاح بشكل علني ومادي، لرفع قيمة العمل الإيجابي في الثقافة المؤسسية.
3- بناء تحالفات داعمة للتغيير (القوة المضادة):
أ- الشراكة مع الكفاءات: الاعتماد على الكفاءات الشابة والمتحمسة والقيادات الوسطى الداعمة للإصلاح وتصعيدها للمواقع المؤثرة لتشكل قوة دفع معاكسة.
ب التواصل المستمر: توعية الجمهور والموظفين بأهمية الإصلاحات وفوائدها، لخلق ضغط شعبي وداخلي يحد من قدرة المعرقلين على العمل في الظل.
إن معركة التقدم والنهوض هي في جوهرها معركة إرادة ضد الركود، ومعركة كفاءة ضد المصالح الذاتية. لا يمكن لقطار التنمية أن ينطلق بأقصى سرعته ما دامت “مراكز القوة المُعطّلة” تمسك بمكابحه في كل مصلحة ومؤسسة. لقد أثبت التاريخ أن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالخطابات وحدها، بل يتطلب إرادة سياسية وإدارية حازمة تفهم طبيعة هؤلاء المعرقلين، وتعمل بشكل منهجي على تجفيف منابع نفوذهم عبر الشفافية، والأتمتة، والمساءلة الصارمة. إن الطريق نحو المستقبل يمر حتمًا عبر التخلص من كل يد تسعى لشد المؤسسات إلى الخلف.
