بقلم : أحمد رشدى
يواصل «معرض الشارقة الدولي للكتاب» ترسيخ مكانته كمنارة ثقافية عالمية تجمع بين بهاء الكلمة وروح المعرفة، حيث أصبح عبر دوراته المتتابعة مساحة رحبة تتلاقى فيها الحضارات وتزدهر فيها الأفكار، ويُمد عبرها جسر طويل يصل الشرق بالغرب، ويمنح القارئ نافذة واسعة على تجارب الإنسانية المختلفة.
وفي دورته الرابعة والأربعين، يعرض المعرض مجموعة ضخمة من الإصدارات الفكرية والأدبية والعلمية، ويقدّم ما يزيد على أربعمائة فعالية ثقافية تشمل الندوات الحوارية، والأمسيات الشعرية، وورش العمل التعليمية، وحفلات توقيع الكتب، إضافة إلى فعاليات للطهي وأنشطة موجهة للأطفال. وتشارك في هذه الدورة أكثر من ألف وأربعمائة وعشرين دار نشر من مختلف أنحاء العالم، ويستقطب المعرض سنويًا ما يفوق مليوني زائر، ليواصل مكانته كأحد أكبر معارض الكتب وأكثرها تأثيرًا عالميًا. كما يوفر المعرض لزوّاره فرصة اقتناء الكتب بلغات تتجاوز المئتين وعشر لغات، بأسعار تتناسب مع مختلف الفئات.
وجاءت دورة هذا العام احتفاءً بدولة اليونان ضيفَ شرفٍ، تكريمًا لحضارة تركت بصمتها العميقة على مسار الفكر الإنساني، وأسهمت عبر الفلسفة والآداب والفنون في تشكيل أسس المعرفة العالمية. ويعكس هذا الاختيار رؤية الشارقة في تعزيز الحوار الثقافي بين الشعوب وبناء جسور التواصل الحضاري.
كما يكرّم المعرض الكاتب والصحفي المصري محمد سلماوي، رئيس مجلس إدارة مؤسسة المصري اليوم، باختياره «شخصية العام الثقافية»، تقديرًا لمسيرة مهنية وأدبية امتدت لأكثر من نصف قرن، قدّم خلالها أعمالًا مسرحية وروائية بارزة، وأسهم بدور مؤثر في دعم حرية الإبداع وقضايا المثقفين، وترسيخ مكانة الأدب العربي المعاصر على الساحة العالمية.
وخلال حفل الافتتاح، رحّب الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، بدولة اليونان ضيف شرف الدورة الحالية، مؤكدًا أن الثقافة كانت وما زالت محور اهتمامه الأكبر، إذ قال إنه كرّس حياته للثقافة «رفعًا لرايتها وإعلاء لكلمتها، ورغبة في نشر العلوم والمعارف والآداب بين أبناء الأمة في مشارق الأرض ومغاربها». وتأتي هذه الكلمات لتجسد رؤية واعية تؤمن بأن المعرفة هي حجر الأساس لنهضة الإنسان وتقدّم المجتمعات.
وفي خطوة معرفية رائدة، أعلن حاكم الشارقة الانتهاء من المرحلة الأولى من «الموسوعة العربية الشاملة في الآداب والفنون والعلوم والإعلام»، وهي مشروع ضخم يعيد توثيق التاريخ العلمي والثقافي للأمة العربية منذ بداياتها الأولى وحتى العصر الحديث. وتتناول الموسوعة مختلف العلوم واللغات والعلوم الشرعية والإنسانية، وتتضمن تراجم دقيقة لسير العلماء والفلاسفة والمفسرين واللغويين والشعراء والخلفاء والملوك الذين أسهموا في تشكيل الوعي العربي والإسلامي وإغناء المكتبة الإنسانية بأسمى المعارف.
وفي سياق الحضور العربي البارز داخل المعرض، جاءت المشاركة المصرية هذا العام لتعكس عمق الروابط الثقافية بين مصر والإمارات، وتبرز مكانة مصر التاريخية كقلب نابض للمعرفة في العالم العربي. فقد شاركت مصر بجناح متميز على مساحة 492 مترًا مربعًا، يضم 35 دار نشر تمثل نخبة من أهم مؤسسات النشر والإبداع المصرية. ويقدم الجناح مجموعة واسعة من الإصدارات التي تشمل الأدب والتراث والتاريخ والكتب العلمية وكتب الأطفال، إلى جانب أحدث الإصدارات التي تجسد التطور المستمر في صناعة النشر المصرية.
وشاركت الهيئة المصرية العامة للكتاب بوفد رسمي ضم الأستاذة سحر عبد الفتاح والأستاذة هالة محمد علي، حيث يعكس هذا الحضور المؤسسي اهتمام مصر بتعزيز مكانتها الثقافية عالميًا. وقد شهد الجناح المصري إقبالًا واسعًا من الجمهور لما يقدمه من محتوى ثري يعبر عن التنوع الكبير في المشهد الثقافي المصري، ويؤكد استمرار دور مصر في صياغة الوعي العربي وإثراء حركة النشر والإبداع.
وهكذا يبرز «معرض الشارقة الدولي للكتاب» في دورته الرابعة والأربعين كحدث جامع تتقاطع فيه المعرفة مع الإبداع، وتلتقي فوق أرضه حضارات العالم، ويؤكد من جديد أن الثقافة ليست مجرد فعل معرفي، بل مشروع حضاري ينهض بالأمم ويمنح الإنسان قدرة أكبر على الفهم والإدراك والبناء .
