بقلم د.نادي شلقامي
لطالما كان جنوب لبنان، بتضاريسه الجبلية وموقعه الجغرافي الحيوي، ساحة صراع دائم ونقطة توتر رئيسية بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي. إن الأطماع الإسرائيلية في هذه المنطقة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى الأهداف التوسعية للحركة الصهيونية منذ وقت مبكر. إن القتال الشرس الذي تخوضه إسرائيل حالياً في الجنوب يُعد تتويجاً لسلسلة من العوامل الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية التي تجعل من هذه البقعة هدفاً حيوياً لها. يهدف هذا التقرير إلى تحليل وتفصيل الدوافع الكامنة وراء هذا الطمع والعدوانية الإسرائيلية.
— الأهداف والدوافع الرئيسية للأطماع الإسرائيلية في جنوب لبنان
يمكن تصنيف الدوافع الإسرائيلية للسيطرة أو التأثير العميق في جنوب لبنان إلى محاور رئيسية: أمنية، اقتصادية، وجغرافية-استراتيجية.
أولا… الدوافع الأمنية والاستراتيجية (الأكثر إلحاحاً)
هذا هو الدافع المعلن والأكثر وضوحاً في عمليات القتال الحالية:
1- تحييد وقدرات حزب الله.
يُعتبر وجود وقدرات حزب الله العسكرية، بما في ذلك صواريخه بعيدة وقصيرة المدى ومنصات الإطلاق، التهديد الأمني الأكبر من الشمال بالنسبة لإسرائيل. القتال العنيف يهدف إلى.
2- دفع عناصر حزب الله شمالاً:
إبعاد مقاتلي الحزب وقدراته العسكرية وراء خطوط محددة، لضمان أمن المستوطنات الإسرائيلية الشمالية.
3- تدمير البنية التحتية.
تدمير مخازن الأسلحة، ومراكز القيادة والتحكم، والأنفاق التي يمتلكها الحزب في المنطقة الحدودية.
4- تثبيت معادلة ردع جديدة.
محاولة فرض شروط أمنية وسياسية تضمن عدم تكرار هجمات من الأراضي اللبنانية.
5- العمق الجغرافي والمواقع المُشرفة.
يتميز جنوب لبنان بمرتفعات استراتيجية (مثل بعض التلال في المنطقة) تُشرف على مناطق واسعة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. السيطرة على هذه النقاط أو تعطيلها يمنح إسرائيل ميزة في المراقبة والاستطلاع وجمع المعلومات الاستخبارية الإلكترونية والتقليدية، ويُقلل من قدرة أي طرف معادٍ على اتخاذ مواقع هجومية أو دفاعية فعالة.
6- المنطقة العازلة (الحزام الأمني).
تاريخياً، سعت إسرائيل إلى إقامة “حزام أمني” داخل الأراضي اللبنانية لمنع أي عمليات تسلل أو هجوم مباشر على شمال إسرائيل. وفي الوقت الحالي، الهدف هو فرض واقع أمني جديد، سواء باحتلال مناطق معينة أو بضمان نزع سلاح المقاومة في منطقة جنوب نهر الليطاني.
ثانيا… الدوافع الاقتصادية (المياه والأرض)
تُعد الموارد الطبيعية في جنوب لبنان هدفاً تاريخياً للتوسع والأطماع الصهيونية:
1- السيطرة على مصادر المياه:
لطالما كان نهر الليطاني وروافده (مثل نهر الوزاني) محل طمع صهيوني. يعود هذا الطموح إلى مخططات توسعية قديمة طالبت بحدود تمتد إلى الجنوب من صيدا للسيطرة على المياه اللبنانية الغزيرة، والتي تُعتبر مورداً حيوياً في منطقة تعاني من ندرة المياه.
2- الطموحات التوسعية في الأرض:
تشير بعض المخططات الصهيونية التاريخية إلى رغبة في التوسع شمالاً لتشمل أجزاء من جنوب لبنان. على الرغم من أن إسرائيل انسحبت عام 2000، فإن التمسك ببعض النقاط الحدودية المتنازع عليها (مثل مزارع شبعا أو تلال محددة) يعكس استمرار هذا الطموح.
ثالثا… الأبعاد السياسية الداخلية والإقليمية
1- أهداف سياسية داخلية:
في أوقات التوتر، قد تلجأ الحكومة الإسرائيلية إلى تصعيد القتال الخارجي لتحويل الانتباه عن الأزمات أو الانتقادات الداخلية، أو لاسترضاء اليمين المتطرف والحفاظ على تماسك الائتلاف الحكومي.
2- فرض شروط على الدولة اللبنانية:
استخدام القوة والضغط العسكري والتهديد بغزو واسع النطاق كوسيلة للمساومة الدبلوماسية، والربط بين وقف إطلاق النار الدائم وشروط سياسية كبرى، أبرزها نزع سلاح حزب الله عبر الدولة اللبنانية.
3- تقويض السيادة اللبنانية:
محاولات مستمرة لمنع لبنان من استعادة سيادته الكاملة على أراضيه الجنوبية، والحفاظ على ورقة ضغط دائمة على الحكومة اللبنانية.
رابعا…. لماذا يقاتل الاحتلال بشراسة؟
تأتي شراسة القتال نتيجة لعاملين متقابلين: القوة الإسرائيلية الساعية للفرض، والمقاومة اللبنانية الساعية للمنع.
1- عمق التهديد من حزب الله:
يمتلك حزب الله ترسانة صاروخية ضخمة وقدرات قتالية عالية أثبتت فعاليتها في مواجهات سابقة. هذا التهديد الفعلي والمحتمل للمدن الشمالية الإسرائيلية يدفع إسرائيل لاستخدام أقصى قوتها الجوية والمدفعية، وحتى التهديد بالتوغل البري، لـ “اقتلاع” هذا التهديد بشكل جذري.
2- جغرافية المنطقة:
المنطقة الحدودية جبلية ووعرة، مما يجعل أي عملية برية صعبة ومكلفة للغاية على المهاجم. هذا يجبر الجيش الإسرائيلي على الاعتماد بشدة على القصف الجوي والمدفعي المركز والشديد لتمهيد الطريق لأي عملية، أو لتعويض عن صعوبة الدخول البري.
3- العقيدة العسكرية الإسرائيلية (الرد القوي):
تعتمد العقيدة الإسرائيلية على الرد غير المتناسب واستخدام القوة المفرطة لتحقيق هدفين: تدمير قدرات العدو بسرعة، وتثبيت قوة الردع عبر إلحاق أضرار بالغة بالبنية التحتية والبيئة المحيطة به.
وختاما…إن الأطماع الإسرائيلية في جنوب لبنان مزيج معقد من أهداف أمنية فورية تتمثل في تحييد حزب الله وتأمين المستوطنات الشمالية، وأهداف توسعية تاريخية واقتصادية تتعلق بمصادر المياه والأرض. القتال الشرس يعكس خطورة الموقف من وجهة النظر الإسرائيلية، وتصميمها على استخدام القوة لتحقيق أهداف استراتيجية عميقة الجذور، سواء بالسيطرة المباشرة أو بفرض واقع أمني وسياسي يلغي التهديد القادم من الحدود اللبنانية. هذا الصراع المستمر يؤكد على الأهمية الاستراتيجية لجنوب لبنان كخط دفاع ومقاومة، وكمنطقة محورية في الصراع الإقليمي الأوسع.
