دارين عوض
في تاريخ الطب الحديث في مصر والعالم العربي، تتلألأ أسماء قليلة أحدثت فرقًا جذريًا، ويأتي على رأسها اسم الدكتور محمد غنيم، الذي يُعد بحق رائدًا في مجال جراحة الكلى وأحد أبرز رواد زراعة الأعضاء في الشرق الأوسط. لم يكن الدكتور غنيم مجرد جراح ماهر، بل كان مؤسسًا ورائدًا، حول مدينة المنصورة بدلتا النيل إلى منارة طبية عالمية يأتي إليها المرضى والأطباء من كل حدب وصوب.
مسيرة مؤسسية لا مثيل لها
تخرج الدكتور غنيم في كلية طب قصر العيني، لكن طموحه لم يتوقف عند حدود التعليم التقليدي. سافر إلى الخارج ليحصل على أعلى الخبرات في جراحة الكلى والمسالك البولية، وهي خبرات عاد بها إلى وطنه ليضع حجر الأساس لمشروعه الأكبر: مركز أمراض الكلى والمسالك البولية بالمنصورة. لم يكن هذا المركز مجرد مستشفى، بل كان رؤية تحققت على أرض الواقع. في سبعينيات القرن الماضي، كان مفهوم زراعة الكلى يبدو بعيد المنال في المنطقة، لكن الدكتور غنيم كان يؤمن بأن الحلم ممكن. في عام 1976، أجرى أول عملية زراعة كلى ناجحة في مصر، ليكون بذلك أول من يفتح هذا الباب أمام الآلاف من مرضى الفشل الكلوي.
منارة علمية وتدريبية
لم يكتفِ الدكتور غنيم بتقديم الرعاية الطبية للمرضى فقط، بل كان يرى أن دوره يمتد إلى بناء الأجيال. تحول المركز الذي أسسه إلى مدرسة علمية حقيقية، خرّجت أجيالًا من الجراحين والأطباء المهرة الذين حملوا على عاتقهم رسالة العلم والعمل. كان الدكتور غنيم يولي اهتمامًا كبيرًا للبحث العلمي، وله مئات الأبحاث المنشورة في أرقى المجلات العلمية العالمية، مما أكسبه احترام وتقدير المجتمع الطبي الدولي. هذه الجهود الأكاديمية هي التي جعلت من مركز المنصورة مرجعًا عالميًا يُعتمد عليه في التدريب والبحث.
تأثير يتجاوز الطب
تأثير الدكتور غنيم لم يقتصر على إنقاذ حياة المرضى وتدريب الأطباء، بل امتد إلى ترسيخ قيم العمل الجاد، النزاهة، والإيمان بأن العلم هو طريق التقدم الحقيقي. لقد أثبت أن الإبداع لا يحتاج إلى موارد ضخمة بقدر ما يحتاج إلى رؤية واضحة وإصرار لا يلين. ورغم بلوغه سن متقدمة، لم يتخلَّ عن شغفه بالعمل والعطاء، وظل يتابع التطورات العلمية، ويقدم المشورة، ويُعتبر “شيخ الجراحين” في مجاله.
الدكتور محمد غنيم ليس مجرد اسم على لوحة تذكارية، بل هو قصة نجاح ملهمة، ومثال حي على أن العطاء والتفاني يمكن أن يحولا الحلم إلى حقيقة، وأن العلم هو أغلى استثمار في مستقبل الأمم.
