كتب …أحمد رشدى
لم يعرف المصريون في بدايات القرن العشرين صدمة أشد وقعاً من تلك التي أحدثتها جرائم ريا وسكينة في مدينة الإسكندرية. ففي أزقة حي اللبان المزدحمة، اختفت النساء بصمت، لتكتشف لاحقاً شبكة معقدة من الجرائم التي زعزعت شعور الأمان في المجتمع المصري. لم تكن الضحايا مجرد أرقام، بل نساء حملن أحلامهن وأسرارهن، ليجدن أنفسهن أمام مصير مأساوي على يد نساء يطلق عليهن الرعب نفسه: ريا وسكينة.
عصابة النساء… قتل وسرقة بلا رحمة
ريا وسكينة لم تكونا مجرد سيدتين عاديتين. فقد أدارتا عصابة محكمة، حيث كانت الخديعة والاغتيال جزءاً من استراتيجيتها. كنّ يستدرجن ضحاياهن إلى منازلهن، يخنقنهن، ثم يدفن الجثث في أماكن مخفية داخل الحواري الضيقة. لم تقتصر جرائمهما على السرقة، بل امتدت إلى نشر الخوف بين السكان، حتى أن ذكر اسميهما أصبح كافياً لإثارة الرعب في قلوب الناس.
أبعاد سياسية أم مجرد جريمة؟
مع مرور الزمن، ظهرت روايات تروي أن ريا وسكينة لم تقتلا النساء بدافع المال وحده، بل كانتا تستهدفان زوجات الجنود البريطانيين وعشيقاتهم في محاولة مقاومة سرية للاحتلال. هذه الروايات أضفت على قصتهما صبغة وطنية، وحوّلتهما من سفاحتين إلى رمز للتمرد، إلا أن المؤرخين يؤكدون غياب الأدلة الموثقة التي تثبت هذه الرواية، ما يجعلها أقرب للأسطورة منها إلى الحقيقة التاريخية.
الواقع الموثق والخيال الشعبي
تثبت التحقيقات الرسمية التي جرت في عشرينيات القرن الماضي أن الجرائم كانت جرائم جنائية بحتة، ارتكبت بدافع الجشع والطمع، دون أي بُعد سياسي. ومع ذلك، فإن تزامن هذه الجرائم مع أحداث ثورة 1919 ساعد على نسج أساطير حول مقاومة سرية ضد الاحتلال، ليبقى الغموض حاضراً في وجدان الناس.
إرث ريا وسكينة في الذاكرة المصرية
قصص ريا وسكينة لم تنتهِ مع حكم الإعدام الذي نفذ فيهما عام 1921، بل بقيت حية في الذاكرة الشعبية، تتناقلها الأجيال على شكل أساطير مروعة. لقد نجحت تلك القصص في مزج الرعب بالتاريخ، وفي إثارة التساؤل الأبدي حول ما إذا كانت الأفعال الوحشية يمكن تبريرها أحياناً باسم الوطنية.
خاتمة مفتوحة على التأويل
ريا وسكينة تمثلان معضلة مزدوجة: سفاحتان دمويتان في الواقع، وبطلتان أو رمز للتمرد في المخيلة الشعبية. وبين الحقيقة التاريخية والخيال الشعبي، تبقى قصتهما مفتوحة على كل التأويلات، لتؤكد أن التاريخ أحياناً لا ينحصر في الوقائع وحدها، بل يعيش في فضاءات الأسطورة والرعب والذاكرة الجمعية.
