مريم أحمد
في عالم يُشكِّل فيه البحر شريان الحياة للدول، إذ ترتبط من خلاله بالتجارة والسفر والتواصل مع العالم، هناك دول وُلدت جغرافيًا في عزلة بلا منفذ على أي بحر أو محيط، تُعرَف بالدول الحبيسة. هذه الدول تعيش واقعًا مختلفًا عن جيرانها الساحليين، إذ تتحوّل الجغرافيا من نعمة إلى تحدٍّ، ومن باب واسع على العالم إلى حدود مغلقة تحتاج دائمًا إلى وسيط.
تُعرَّف الدولة الحبيسة بأنها الدولة التي لا تطل على أي مسطح مائي مفتوح كالبحار أو المحيطات، وهو ما يجعلها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدول المجاورة للوصول إلى الأسواق العالمية. وقد يبدو هذا تفصيلًا جغرافيًا بسيطًا، لكنه في الحقيقة يترك أثرًا عميقًا في اقتصاد هذه الدول وسياساتها وحتى ثقافتها، إذ يحدّ من خياراتها ويجعلها أكثر ارتباطًا وتعاونًا، وأحيانًا أكثر تبعية لجيرانها.
تنتشر الدول الحبيسة في معظم قارات العالم، ويبلغ عددها أكثر من أربعين دولة. ففي إفريقيا نجد مثلًا تشاد والنيجر ومالي وتشاد وإثيوبيا وزامبيا. أما في آسيا فتضم القائمة أفغانستان ونيبال ومنغوليا وأوزبكستان. وفي أوروبا يبرز وجود عدد كبير منها مثل النمسا وسويسرا والمجر وصربيا. ولا تخلو أمريكا الجنوبية من هذه الظاهرة، حيث تُعد بوليفيا وباراجواي
مثالين واضحين على دول محاطة بالكامل بجيرانها.
لكن العزلة البحرية لا تأتي بلا ثمن؛ فالدول الحبيسة تواجه صعوبات في التجارة الخارجية بسبب غياب الموانئ، ما يرفع تكلفة الاستيراد والتصدير ويؤثر في تنافسيتها الاقتصادية. كما تُجبَر على التفاوض المستمر مع الدول الساحلية لتأمين ممرات آمنة لبضائعها، الأمر الذي قد يضعها أحيانًا في مواقف سياسية حسّاسة. وحتى على المستوى الثقافي، تبقى هذه الدول أقل انفتاحًا على العالم الخارجي مقارنة بالدول الساحلية.
ورغم هذه التحديات، أثبتت بعض الدول أن الجغرافيا ليست قدرًا حتميًا. فسويسرا – رغم كونها دولة حبيسة – أصبحت من أغنى دول العالم بفضل اقتصادها القوي واستثمارها في التعليم والخدمات المصرفية. أما أوزبكستان فقد بنت شبكة نقل تربطها بالموانئ الإقليمية لتأمين تجارتها، في حين اختارت بوتان التركيز على السياحة البيئية والثقافة المحلية كطريق نحو التنمية المستدامة.
وهكذا، تُظهر لنا الدول الحبيسة وجهًا آخر من وجوه الجغرافيا، وجهًا يحمل في طياته معاناة وتحديًا، لكنه يكشف أيضًا عن إرادة بشرية قادرة على تحويل القيود إلى فرص. فالعالم ليس ملكًا لمن يطلّون على البحر وحدهم، بل لمن يعرفون كيف يبحرون بأفكارهم في محيطٍ من الإمكانيات، مهما كانت الحدود تحاصرهم.
