د.نادي شلقامي
قد يفقد الإنسان ذاكرته، لكنه لا يفقد أثر من أنقذ ذاكرة البشرية من الغموض. هكذا بقي اسم ألويس ألزهايمر حاضرًا في الوعي العلمي والإنساني، بعدما ارتبط بأحد أكثر الأمراض العصبية غموضًا وانتشارًا في العالم. لم يكن ألزهايمر مجرد طبيب، بل باحثًا دؤوبًا فتح نافذة لفهم الخرف بوصفه مرضًا عضويًا لا لغزًا نفسيًا، في وقت كانت فيه هذه الفكرة ثورة علمية حقيقية.
وُلد ألويس ألزهايمر عام 1864 في ألمانيا، ودرس الطب في عدد من الجامعات الكبرى، قبل أن يتجه مبكرًا إلى علم الأعصاب والطب النفسي. وفي بيئة طبية كانت تفسر الاضطرابات العقلية تفسيرًا غامضًا أو أخلاقيًا، اختار ألزهايمر طريقًا مختلفًا، آمن فيه بأن العقل البشري، مهما تعقّد، يمكن فهمه عبر المجهر والتشريح والدراسة الدقيقة.
في مطلع القرن العشرين، قادته ملاحظاته السريرية إلى حالة لمريضة تُدعى أوغوست ديتَر، بدت أعراضها غير مألوفة: فقدان سريع للذاكرة، اضطراب في اللغة، وتبدلات حادة في السلوك. لم يتعامل ألزهايمر مع الحالة باعتبارها جنونًا أو شيخوخة مبكرة، بل بوصفها لغزًا علميًا يستحق البحث.
بعد وفاة المريضة، فحص ألزهايمر دماغها ليكتشف تغيّرات غير طبيعية تمثلت في ترسبات بروتينية وتشابكات ليفية داخل الخلايا العصبية، وهي نتائج لم تكن معروفة آنذاك. وفي عام 1906، أعلن أمام المجتمع العلمي اكتشاف نوع جديد من الخرف، ليبدأ فصل جديد في تاريخ علم الأعصاب.
لم تمضِ سنوات طويلة حتى أصبح هذا المرض يُعرف باسم ألزهايمر، اعترافًا بفضل الرجل الذي ربط لأول مرة بين الأعراض السريرية والتغيرات العضوية في الدماغ. ومنذ ذلك الحين، صار اكتشافه حجر الأساس لمئات الآلاف من الدراسات والأبحاث التي تسعى لفهم المرض وعلاجه.
في 19 ديسمبر 1915، رحل ألويس ألزهايمر عن العالم عن عمر لم يتجاوز 51 عامًا، لكنه ترك إرثًا علميًا تجاوز حدود عمره وزمانه. واليوم، ومع ازدياد أعداد المصابين بمرض ألزهايمر حول العالم، يبدو اسمه أكثر حضورًا من أي وقت مضى.
لم يكن ألويس ألزهايمر يعلم أن اسمه سيصبح مرادفًا لفقدان الذاكرة، لكنه كان يدرك أن العلم وحده قادر على منح الإنسان إجابات لأسئلته الأكثر إيلامًا. وبينما لا يزال المرض بلا علاج شافٍ، يبقى اكتشاف ألزهايمر شاهدًا على أن المعرفة هي الخطوة الأولى في طريق المواجهة، وأن بعض الأسماء لا تُنسى… لأنها علمت البشرية كيف تفهم النسيان.
