نجده محمد رضا
في زمنٍ تتبدل فيه القيم كما تتبدل الشاشات أمام أعيننا، ظهر نوع جديد من الثروة لا يُمسّ ولا يُوزَن… لكنه يُباع بملايين الدولارات.
صور، نعم صور فقط، لكنها ليست كأي صور. إنها الـNFT — أو كما يسميها العالم: رموز الند للند غير القابلة للاستبدال.
وهنا تبدأ اللعبة الكبرى… لعبة العقول والخيال والمال.
ما هي الـNFT حقًا؟
تبدو الصورة عادية للعين، لكن خلفها شيفرة رقمية لا تُكرّر.
كل رمز NFT هو ملكية رقمية موثّقة على شبكة البلوك تشين، تلك التقنية التي لا يمكن التلاعب بها ولا تزويرها.
عندما تشتري NFT، فأنت لا تشتري مجرد صورة، بل تملك توقيعها الرقمي الأصلي، تمامًا كما يملك مقتني لوحة الموناليزا النسخة الوحيدة الأصلية مهما كَثُرت النسخ حول العالم.
كيف تحوّلت الصورة إلى ثروة؟
في عام 2021، صُدمت الأسواق ببيع لوحة رقمية للفنان Beeple (الاسم الحقيقي: Mike Winkelmann) بمبلغ 69.3 مليون دولار في مزاد علني لدار Christie’s.
العمل كان بعنوان Everydays: The First 5,000 Days، واشتراه المستثمر الهندي MetaKovan (واسمه الحقيقي Vignesh Sundaresan)، مؤسس صندوق Metapurse المتخصص في الاستثمار بالأصول الرقمية.
من بعدها تغيّر المفهوم:
لم تعد الثروة في الذهب أو العقار أو النفط…
بل في الرمز، في الفكرة، في البِتّ الرقمي الواحد الذي يُقنع العقل البشري أنه ملك.
عبقرية الـNFT… وعبث الواقع
إنها لا تبيع الصورة… بل تبيع الوهم المقنِع بالملكية.
تبيع إحساس الإنسان بأنه يملك الأصل، ولو كان هذا الأصل لا يُلمَس.
من هنا ظهر جنون المقتنين:
من اشترى صورة لقرد من مجموعة Bored Ape Yacht Club بملايين الدولارات،
ومن ربح من بيع قطعة “بكسل” واحدة من مشروع CryptoPunks، مثل الرمز #7523 الذي بيع بملايين الدولارات لمجهول الهوية،
ومن حوّل رسمة بسيطة إلى ثروة رقمية تفوق ميزانيات دول صغيرة.
اقتصاد جديد… وسحر لا يُقاوَم
منصات مثل OpenSea وRarible أصبحت أسواقًا عملاقة لا تعرف النوم.
يبيع فيها الفنانون أعمالهم، والمستثمرون يراهنون على الرموز كما يراهن المقامر على الحظ.
هناك من خسر الملايين، وهناك من صنع ثروة من “صورة قرد” أو “رمز بيكسل”.
لكن المدهش أن هذا العالم لا يعرف المنطق التقليدي.
إنه عالم تُدار فيه القيمة بالعاطفة، لا بالحساب.
من يملك الخيال هنا هو من يحكم.
هل هو فن أم فقاعة؟
سؤال يتردّد في أذهان الجميع…
هل الـNFT ثورة رقمية ستعيد تعريف الملكية والفن؟
أم أنه مجرد وهم جماعي منسوج بخيوط الطمع والغرور والتكنولوجيا؟
الواقع أن العالم لا يهمه الجواب الآن.
طالما هناك من يشتري، وطالما هناك من يندهش، فالسوق مستمر.
فلسفة عصرٍ رقميّ لا يعرف المستحيل
ولعل أجمل ما في الأمر أن هذه الصور — رغم بساطتها — جعلت الإنسان يكتشف من جديد أن القيمة ليست فيما نراه، بل فيما نؤمن به.
عالم الـNFT ليس مجرد تجارة أو تقنية،
إنه انعكاس لعقل الإنسان الحديث:
يخاف من الفناء، فيخلق لنفسه ملكية رقمية تبقى بعده.
يبحث عن الخلود، فيشتري رمزًا يظنه لن يموت.
هي فلسفة تتنكر في هيئة صورة، لكنها في الحقيقة مرآة للعصر كله.
