د.نادي شلقامي
“في قطاع غزة، لم يعد الموت يرتدي عباءة القصف وحدها. لقد اتخذ أشكالاً جديدة، أكثر خسة وفتكاً، تلاحق الأطفال في صمت. إنها حرب ثلاثية الجبهات تُشن على أكثر من مليون طفل: الجوع الذي يذيب أجسادهم، والأوبئة الصامتة التي تنتشر بلا رحمة، والصدمة النفسية المُزمنة التي تنهش عقولهم وتسرق طفولتهم. بينما يتلقى العالم تقارير أرقام الضحايا، تترسخ مأساة جيل كامل يواجه خطر الزوال ليس فقط بسبب العنف المباشر، بل بسبب انهيار الحياة نفسها. هذه جولة في الجروح غير المرئية لأطفال غزة، الذين أصبحوا فريسة لأمراض كان يُعتقد أنها طُويت إلى الأبد، في سباق يائس مع الزمن لإنقاذ ما تبقى من أرواح وطفولة.”
أولا… الجوع وسوء التغذية: الإبادة الصامتة
يُعد الجوع أشد الأخطار فتكاً، حيث يحوّل الأطفال إلى ضحايا لمرض كان من السهل تجنبه.
مستويات الكارثة:
1- -الفقر الغذائي الحاد: تشير التقارير إلى أن حوالي 90% من الأطفال دون سن الثانية يعيشون حالة “الفقر الغذائي الحاد”، مما يعني أنهم لا يتناولون مجموعات غذائية كافية للبقاء على قيد الحياة والنمو بشكل سليم.
2 – سوء التغذية الحاد الوخيم (SAM): يواجه آلاف الأطفال خطر الإصابة بسوء التغذية الحاد الوخيم، وهي أخطر أشكال سوء التغذية وتتطلب علاجاً فورياً بالأغذية العلاجية الخاصة، وإلا فإنها تؤدي إلى الموت.
3 – الموت جوعاً: تم تسجيل وفيات بين الأطفال حديثي الولادة والرضع بسبب الجفاف وسوء التغذية، خاصة في المناطق الشمالية الأكثر عزلة.
4 -نقص الوزن والهزال: يظهر على الأطفال علامات الهزال الواضحة (نقص حاد في الوزن بالنسبة للطول)، مما يعرضهم لمخاطر صحية لا يمكن إصلاحها حتى لو تحسنت إمدادات الغذاء لاحقاً.
السبب المباشر: الحصار المفروض والنقص الحاد في دخول المساعدات الغذائية، إلى جانب تدمير سبل العيش وتوقف عمل المخابز والأسواق.
ثانيا…الأمراض النفسية والسلوكية(القابلة للعلاج)
تشير التقارير إلى أن الأطفال في غزة يواجهون مجموعة واسعة من الأمراض النفسية والسلوكية القابلة للعلاج، خاصة في ظل استمرار النزاعات والظروف الإنسانية الصعبة.
تُعد الاضطرابات النفسية والسلوكية الناتجة عن الصدمات والظروف البيئية الضاغطة الأكثر شيوعاً، ومن أبرزها:
1-اضطراب كرب ما بعد الصدمة (PTSD): يتميز بالكوابيس المؤلمة، الذكريات السيئة، صعوبات في النوم، والقلق الشديد.
2- اضطرابات القلق: تشمل القلق المزمن، نوبات الهلع، الخوف المجتمعي، والوسواس القهري.
3- الاكتئاب واضطرابات المزاج: أعراضها تشمل الحزن، اليأس، التقلبات المزاجية الحادة، وفقدان الاهتمام بالأنشطة المعتادة.
4- اضطرابات النوم: مثل الأرق والاستيقاظ المتكرر نتيجة الخوف والصدمة.
5- الاضطرابات السلوكية: مثل التبول اللاإرادي، العصبية، السلوك العدواني، ونوبات الغضب.
6- الانسحاب العاطفي (Emotional Withdrawal): وهو تراجع في التفاعل والتعبير عن المشاعر.
العلاج المتاح لهذه الاضطرابات يركز غالبًا على العلاج النفسي الداعم، العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، إدارة الصدمات المتخصصة، وفي بعض الحالات العلاج الدوائي تحت إشراف متخصصين. كما أن الدعم النفسي والاجتماعي المُقدم للأطفال ومقدمي الرعاية لهم أمر حيوي.
ثالثا….الأمراض الطبية القابلة للعلاج
بالإضافة إلى الأمراض النفسية، فإن الظروف البيئية والصحية المتردية في غزة تؤدي إلى تفشي أمراض طبية تحتاج إلى علاج عاجل، ومنها:
1- الأمراض المعدية والأوبئة: مثل الإسهال الحاد، التهاب الكبد الوبائي (أ)، والأمراض التي تنتشر بسبب سوء إدارة النفايات ونقص المياه النظيفة.
2- سوء التغذية والأمراض المرتبطة به: بما في ذلك سوء التغذية الحاد الوخيم، الذي يؤدي إلى ضعف جهاز المناعة وزيادة خطر الوفاة.
3- الأمراض الجلدية: تنتشر بسبب الظروف المعيشية المزدحمة ونقص النظافة.
4- حالات الإصابات والجروح: الناتجة عن النزاعات والتي تحتاج إلى رعاية طبية طارئة، عمليات جراحية، وعلاج تأهيلي.
العلاج يتطلب توفير الإمدادات الطبية والأدوية اللازمة، التحصين واللقاحات الأساسية (مثل شلل الأطفال والدفتيريا)، الأغذية العلاجية لعلاج سوء التغذية، وخدمات الرعاية الصحية الأولية والعمليات الجراحية المتخصصة.
رابعا…الأمراض الخطيرة والمميتة..التي يجب علاجها علي الفور.
استناداً إلى التقارير الدولية حول الوضع الصحي في قطاع غزة، فإن الأطفال معرضون لخطر انتشار أمراض خطيرة ومميتة تتطلب معالجة فورية بسبب انهيار النظام الصحي، نقص المياه النظيفة، سوء التغذية، وتكدس النازحين.
تشمل الأمراض والحالات الصحية الخطيرة التي يجب معالجتها على الفور:
1. سوء التغذية الحاد والشديد
يُعد سوء التغذية تهديداً مباشراً لحياة أكثر من مليون طفل، حيث يعاني الكثير منهم من الفقر الغذائي الحاد وسوء التغذية الحاد الشديد.
* لماذا هو خطير؟ يؤدي إلى تدهور سريع في وزن وصحة الطفل، وضعف جهاز المناعة، مما يجعله عرضة للوفاة حتى من الأمراض البسيطة. يحتاج الأطفال المصابون إلى أغذية علاجية متخصصة ورعاية طبية مستمرة.
2. الأمراض المعدية والأوبئة
تنتشر هذه الأمراض بسرعة فائقة نتيجة الاكتظاظ ونقص الصرف الصحي والمياه النظيفة:
أ الإسهال الحاد: سجل ارتفاع كبير في حالات الإسهال بين الأطفال، وهو مرض مميت للأطفال المصابين بسوء التغذية.
ب التهاب الكبد الوبائي (أ): هناك تحذيرات من تفشي هذا المرض، والذي ينتقل عن طريق المياه والأغذية الملوثة.
ج- شلل الأطفال (Polio): تدق منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر من مخاطر تفشي هذا المرض الذي قد ينتج عنه شلل دائم.
د- الأمراض الجلدية المؤلمة والمعدية: تنتشر بشكل واسع بين الأطفال بسبب قلة النظافة وتراكم القمامة.
ه – متلازمة غيلان باريه (Guillain-Barré Syndrome): تم تسجيل حالات وفاة وإصابة بهذه المتلازمة التي تهاجم الأعصاب، وهي مرتبطة بانتشار الفيروسات المعوية.
3. الحالات الحرجة ونقص الرعاية
أ- الأمراض التنفسية الحادة: تزداد الإصابات بها في ظل الظروف المعيشية القاسية ونقص أجهزة التنفس والإنعاش في المستشفيات.
ب- المضاعفات الناتجة عن الإصابات: الأطفال المصابون الذين فقدوا أطرافهم أو تعرضوا لإصابات بالغة يحتاجون إلى رعاية جراحية فورية وعلاج متخصص وإعادة تأهيل، وهي خدمات تعاني من نقص حاد.
هذه الأمراض تتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً يشمل توفير اللقاحات، المضادات الحيوية، الأدوية الأساسية المنقذة للحياة، والمغذيات العلاجية، بالإضافة إلى توفير بيئة صحية آمنة.
في الختام، تتجاوز مأساة أطفال غزة نطاق الخسائر البشرية المباشرة لتصبح إبادة صامتة لجيل بأكمله. لم يعد الأمر مقتصراً على نجاة الجسد، بل نجاة الروح والطفولة. لقد رأينا كيف أن الجوع يدمر المناعة، والأوبئة تنهش الأجساد الضعيفة، والصدمة المزمنة تُحوّل العقول إلى حطام. هذه الجراح الثلاثية – جسدية ونفسية – لا يمكن أن تُشفى إلا بوقف شامل للعنف يتبعه فوراً تدخل إنساني وطبي ونفسي غير مسبوق. إن إنقاذ أطفال غزة ليس مجرد واجب إنساني، بل هو اختبار لضمير العالم. فكل طفل يموت بسبب سوء التغذية، أو يهلك بسبب مرض يمكن علاجه، أو يعيش مثقلاً بكابوس الصدمة، هو دليل إدانة لتقاعسنا. يجب أن تتوقف هذه الكارثة الآن، لتتاح الفرصة لجيل عانى ما لم يعانه أي طفل آخر في العصر الحديث، للبدء رحلة طويلة وشاقة نحو التعافي.”
