د.نادي شلقامي
“في اللحظة التي ظن فيها العالم أن الحياة لفظت أنفاسها الأخيرة على أرض غزة، كانت آلاف الأقدام تخطو أول دروس البقاء.”
آلاف العائدين يتدفقون، لا إلى بيوتهم، بل إلى أطلال بيوتهم المشهد ليس عودة للاستقرار، بل هو تحدٍ بصري لواقع الركام.
كيف يتحوّل هذا المشي فوق الأنقاض من مجرد حركة عودة إلى فعل مقاومة وصناعة للحياة؟ هذه العودة ليست بحثاً عن مأوى، بل إعلان ولادة جديدة من رحم العدم.
“من هنا من قلب هذا المشهد الأسطوري الذي يمزج الألم بالأمل، تبدأ حكاية غزة الجديدة: حكاية العزيمة التي ترفض أن تكون مجرد ذكرى تحت الركام.”
المشهد الذي يتكشف في غزة ليس مجرد نتيجة حرب؛ إنه درس قاسٍ في الجغرافيا البشرية. الآلاف يمشون، لا على أرصفة أو شوارع معبدة، بل على بحر من الإسمنت المتفتت، فوق ذاكرة البيوت المدمرة. هنا تكمن قوة اللحظة..هذه المسيرة ليست هروباً، بل هي تثبيت للوجود. كل خطوة فوق الركام هي إلغاء لقرار التهجير، وتأكيد على أن الانتماء للأرض لا تُمحوه الطائرات.
يصف العائدون اللحظات الأولى لوصولهم: البحث عن علامة، عن قطعة أثاث، عن زاوية جدار. كثيرون لم يجدوا شيئاً سوى حفرة عميقة أو تلال من الرمل الممزوج بالحديد. الصمت يسيطر، لكنه صمت أقوى من الصراخ. إنه صمت الإدراك بأن البداية ستكون من نقطة الصفر المطلق.
بالنسبة لأهل غزة، الركام ليس مجرد حطام؛ إنه تابوت الذاكرة الجماعية. كل قطعة حجر مهدمة تحكي عن عائلة، عن طفولة، عن أحلام لم يمهلها القصف. ورغم هذا الفقد الهائل، فإنهم يرفضون تركه، بل يبدؤون بـتنظيف محيطهم، وكأنهم يجهزون الأرض لا للاستراحة، بل للحياة القادمة.
الفارق بين غزة وأي منطقة كوارث أخرى، هو أن إعادة الإعمار لا تنتظر المساعدات الدولية فقط، بل تبدأ بالجهد الفردي والعزيمة المحلية. هذه العودة هي إطلاق لمشروع وطني مصغر يقوم به كل مواطن بيده العارية.
تبدأ الحياة بحلول بسيطة لكنها جبارة: نصب خيمة على أطلال غرفة المعيشة، إشعال النار على ثلاث حجر لتدفئة طعام أو خبز، استخدام أخشاب الأنقاض كوقود. هذا الابتكار هو مقاومة للعبث؛ إثبات على أنهم قادرون على خلق الضروريات من اللاممكن.
يتشكل مجتمع صغير بين الأنقاض. التكافل يصبح العملة الوحيدة: تقاسم المياه القليلة، مساعدة كبار السن في تنظيف أجزاء من بيوتهم، وإقامة صلاة جماعة في مكان كان بالأمس مصنعاً أو مدرسة. هذه الأفعال ليست مجرد ترتيب للفوضى، بل هي إعادة تأسيس للنسيج الاجتماعي الذي حاولت الحرب تفكيكه.
في هذا الجزء، تبرز أقوى صور الحياة الأطفال يلعبون بين الحطام، يستخدمون قِطع الإسمنت كـ”مكعبات بناء”، يرسمون على الجدران المتبقية. وجودهم، ضحكاتهم، ونظرتهم التي لا تخلو من الفضول، هي إعلان هزيمة لكل من راهن على كسر إرادة المستقبل.
هذه العزيمة ليست لحظية، بل هي عقيدة عميقة تتجاوز مجرد الصبر إلى الإيمان المطلق بالحق. إنه الرد الفلسطيني على محاولات محو الهوية والجغرافيا.
العائدون يرفضون العيش في مخيمات دائمة، ويفضلون قسوة العودة إلى الدفء الزائف في مكان بعيد عن أرضهم. هذا الرفض هو تأكيد للهوية ورفض لأي خطة تهدف إلى تغيير ديموغرافية القطاع. هم يمسكون بالرماد كي لا يفقدوا الأرض.
غزة اليوم تبعث برسالة مزدوجة. الأولى: للظالم، بأن الإبادة لا تصنع سوى المزيد من الأبطال المصرين. الثانية: للعالم، بأن قضيتها ليست مجرد قضية إنسانية تحتاج مساعدات، بل قضية وجود وكرامة تستحق أن يُعاد بناؤها وفق إرادة أصحابها.
الركام، في النهاية، سيصبح نصب تذكاري، ليس للدمار، بل لإرادة البداءة. أهل غزة، وهم يمشون فوق الأنقاض، يكتبون بدمائهم وعرقهم تاريخاً جديداً: كيف أن أقوى سلاح في وجه آلة التدمير هو القدرة على البناء مرة أخرى، مهما كان الثمن.
إن ما نشهده اليوم في غزة، من مشهد الآلاف يخطون فوق الركام، ليس مجرد عودة جغرافية، بل هو فعل وجودي أعمق بكثير. إنه إعلان بأن إرادة التدمير مهما بلغت وحشيتها، لن تنجح في محو إرادة البقاء. في كل خطوة فوق الإسمنت المتفتت، وفي كل خيمة تُنصب على أطلال منزل، يؤكد أهل غزة للعالم أن الوطن ليس مجرد مبنى، بل هو فكرة راسخة في الوعي لا يمكن قصفها.
لقد أرادت آلة الحرب أن تحوّل غزة إلى مقبرة للذاكرة، لكن العائدين حوّلوها إلى منصة انطلاق للحياة. فمن قلب الدمار، تُولد حقيقة جديدة: أن العزيمة هي المادة الخام الأكثر صلابة التي يمتلكها هذا الشعب.
وستبقى هذه المسيرة، مسيرة “عزيمة رغم الركام”، هي الفصل الأخير الذي لم تكتبه الحرب، بل كتبته أيادٍ آمنت بأن الحياة لا تنتظر الإذن لتبدأ، بل تنبثق من حيث لا يتوقع الأعداء. غزة اليوم ليست مجرد قصة دمار، بل هي منارة الصمود التي تُعلم الإنسانية جمعاء، كيف أن الفجر يولد حتماً، حتى لو كان سريره من حطام.
