كتبت/ سالي جابر
أخصائية نفسية
في عالم الاضطرابات العصبية النمائية، تظل متلازمة ريت (Rett Syndrome) واحدة من أكثر المتلازمات غموضًا وتحديًا.
يبدأ الطفل — وغالبًا تكون فتاة — نموه طبيعيًا في الأشهر الأولى، ثم يبدأ بالتراجع المفاجئ في المهارات التي اكتسبها: الكلام، الحركة، استخدام اليدين، وحتى التواصل البصري.
ورغم أن الصمت يصبح لغة جديدة، إلا أن العينين تظلان ترويان حكاية داخلية مليئة بالحياة والإحساس.
الأسباب الوراثية:
تحدث متلازمة ريت في الغالب نتيجة طفرة في الجين MECP2 الموجود على الكروموسوم X، وهو المسؤول عن تنظيم عمل عدد كبير من الجينات داخل الخلايا العصبية.
غياب هذا التنظيم يؤدي إلى اضطراب في نمو الدماغ، وتحديدًا في التشابكات العصبية التي تنقل الإشارات بين الخلايا.
وفي حالات نادرة، قد تنشأ المتلازمة بسبب طفرات في جينات أخرى مثل CDKL5 أو FOXG1، مما يسبب أشكالًا غير نمطية من الاضطراب.
الأعراض والمراحل:
تمر متلازمة ريت بأربع مراحل رئيسية، تختلف شدتها من طفلة لأخرى:
1. المرحلة الأولى (6 إلى 18 شهرًا):
يظهر تباطؤ بسيط في التطور الحركي والاجتماعي، غالبًا دون ملاحظة فورية من الأهل.
2. المرحلة الثانية (سنة إلى أربع سنوات):
تبدأ مرحلة التراجع السريع: تفقد الطفلة مهارات الكلام واستخدام اليدين، وتظهر حركات نمطية متكررة كغسل اليدين أو فركهما المستمر، مع اضطراب في النوم والتنفس.
3. المرحلة الثالثة (من 2 إلى 10 سنوات):
تستقر الأعراض نسبيًا، ويبدأ سلوك الطفلة يتحسن قليلًا رغم استمرار الصعوبات الحركية. وقد يظهر تواصل بصري أفضل أو بعض التفاعل العاطفي.
4. المرحلة الرابعة (بعد سن العاشرة):
يزداد ضعف العضلات والمشي، وتظهر مشاكل في العمود الفقري (الجنف)، وأحيانًا نوبات صرع واضطرابات في التنفس.
التشخيص:
يعتمد تشخيص متلازمة ريت على:
– الفحص السريري والسلوكي: بملاحظة فقدان المهارات المكتسبة ووجود الحركات اليدوية المميزة.
-الاختبارات الجينية: للكشف عن الطفرة في جين MECP2 أو غيره من الجينات المرتبطة.
-استبعاد اضطرابات أخرى مثل التوحد الشديد أو الشلل الدماغي أو التأخر العقلي غير المحدد.
التشخيص المبكر يساعد على التدخل السريع بالعلاج التأهيلي وتحسين جودة الحياة.
العلاج والدعم:
حتى الآن لا يوجد علاج نهائي لمتلازمة ريت، لكن الرعاية المتكاملة يمكن أن تُحدث فرقًا واضحًا في تطور الحالة.
وتشمل طرق العلاج:
– العلاج الطبيعي: للحفاظ على الحركة ومنع تيبس العضلات.
– العلاج الوظيفي: لتدريب الطفلة على استخدام الوسائل المساعدة في النشاطات اليومية.
-علاج النطق والتواصل: باستخدام وسائل بديلة مثل التواصل بالعين أو الأجهزة الذكية.
-الأدوية: للتحكم في النوبات الصرعية ومشكلات التنفس أو القلق.
-الدعم الغذائي: نظرًا لصعوبات البلع أو فقدان الوزن.
– الأبحاث الحديثة في العلاج الجيني تسعى إلى تصحيح الطفرة المسببة، وحققت نتائج مشجعة في تجارب حيوانية، ما يفتح باب الأمل أمام الأسر في المستقبل القريب.
نماذج حقيقية ألهمت العالم في مواجهة متلازمة ريت
وراء كل حالة من متلازمة ريت حكاية إنسانية تستحق أن تُروى، إذ لم تمنع الإعاقة هؤلاء الفتيات وأسرهن من مواجهة الحياة بإصرار وإيمان.
من بين القصص المؤثرة قصة جوليا روبيرتسون من أستراليا، التي كانت من أوائل الحالات التي لفتت انتباه الأطباء إلى هذا الاضطراب النادر في الثمانينيات، مما ساهم في تأسيس جمعية Rett Syndrome Australia ونشر الوعي في المجتمع الطبي.
أما سارة ليفي من كندا، فكسرت حاجز الصمت حين استخدمت جهاز تواصل إلكتروني لتكتب عن تجربتها اليومية مع المتلازمة، مؤكدة أن “العقل حاضر حتى إن عجز الجسد عن التعبير”. قصتها ألهمت الباحثين على تطوير وسائل تواصل جديدة للأطفال المصابين.
وفي الولايات المتحدة، تحولت ميا ماكدويل إلى رمز لحملات التوعية التي تنظمها مؤسسة International Rett Syndrome Foundation، حيث تُعرض قصتها في الأفلام القصيرة التي توثق صبر الأسر وقوة الأمل في مواجهة المرض.
كما ألهمت الطفلة البريطانية إيلا والدتها لتأسيس منظمة Rett UK، التي أصبحت من أهم المؤسسات الداعمة للأبحاث الجينية حول العالم، إيمانًا بأن كل طفلة تستحق فرصة لحياة أفضل.
وفي العالم العربي، بدأت تظهر مبادرات فردية لأمهات فتيات مصابات بالمتلازمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مثل مبادرة “ريت بالعربي”، التي تهدف إلى ترجمة المصادر العلمية ونشر الوعي بلغة بسيطة تمكّن الأسر من فهم المتلازمة والتعامل معها بثقة ووعي.
تُثبت هذه القصص أن الإعاقة ليست نهاية الطريق، بل بداية رحلة شجاعة لصناعة الأمل وتوسيع حدود الممكن.
متلازمة ريت تذكير صامت بأن الجمال لا يُقاس بالكلمات أو الحركات، بل بالروح التي تقاوم، وبالعائلة التي لا تيأس.
ورغم أن هذه المتلازمة تحرم الجسد من حريته، إلا أن الأمل في الطب الحديث والعلم ما زال قائمًا، والوعي هو أول خطوة في طريق العلاج.
