بقلم: أحمد رشدي
في مدينةٍ صغيرةٍ لا يعرف أحد متى بُنيت، كانت هناك محلٌّ غريبٌ لبيع العيون الزجاجية.
واجهة المحل ضيقة،
عليها لافتة باهتة كتب عليها بخطٍ متآكل:
“نُعيد لك نظرتك القديمة.”
كان “مروان” يمرّ أمامه كل يوم دون اكتراث، إلى أن جاء المساء الذي فقدت فيه خطيبته “ريم” حياتها في حادثٍ غامض،
وظلت عيناها مفتوحتين…
تنظران إليه ببرودٍ غامضٍ كأنهما تسألان سؤالًا لم يُجب عليه بعد.
في اليوم الثالث،
وبينما يسير تائهًا في شوارع المدينة،
وجد نفسه أمام المحل. لم يعرف كيف وصل، لكنّه شعر أن شيئًا ما يجذبه من الداخل.
دخل بخطواتٍ مترددة.
رائحةٌ غريبةٌ كالعطر والدم امتزجت في الجو. وعلى الرفوف،
كانت مئات العيون الزجاجية تحدّق فيه،
كل واحدةٍ بلونٍ مختلف، وكأنها تراقبه.
خرج رجلٌ عجوز من الظل،
وجهه نحيف كأنه عاش أكثر من اللازم،
وقال بهدوءٍ يبعث على القلق:
أيمكنني أن أساعدك يا سيدي؟
قال مروان بصوتٍ مبحوح:
أريد… أن أستعيد نظرة.
ابتسم العجوز ابتسامةً باردة،
ثم أخرج صندوقًا خشبيًا صغيرًا،
بدا وكأنه لا ينتمي إلى هذا العالم،
فتحه ببطء،
وقال:
هذه نظرة من فقد محبوبته ولم يدفنها بعد. حذارِ، فالعيون لا تنسى من نظرت إليهم آخر مرة قبل أن تفارق الحياة.
اشترى مروان العينين دون أن يسأل،
وعاد إلى منزله،
ووضعهما على الطاولة بجوار صورة “ريم.
وحين أطفأ الضوء،
حدث ما لم يتوقعه…
من بين العتمة، بدأت العينان تتحركان، تتبعانه أينما ذهب، وتلمعان كأنهما تريان.
ثم سمع همسًا خافتًا يخرج من الصندوق:
لماذا تركتني هناك؟
تجمّد الدم في عروقه.
اقترب ببطءٍ،
والهمس صار واضحًا:
قلتُ لك ألا تقطع الوعد… قلتُ لك إن الحب لا يموت بالصدمة.
سقط مروان على ركبتيه، وصرخ:
ريم؟
انفتح الصندوق من تلقاء نفسه، وانبعث منه ضوءٌ باردٌ كأن الزمن نفسه خرج منه.
ورأى وجهها في الضوء،
مبتسمًا، بعينين لم تعُد زجاجيتين،
بل حقيقيتين تمامًا.
قالت وهي تقترب منه:
أردت أن أراك لآخر مرة…
لكنك فتحت الباب بيننا، ولن يُغلق الآن.
في اليوم التالي،
وجد الجيران باب شقته مفتوحًا،
والصندوق على الأرض.
لم يجدوا مروان.
لكنهم وجدوا على الجدار جملة محفورة بخطٍ مرتجف:
” حين تسمع همس العيون…
فليس هناك من عودة”.
وفي واجهة المحل،
وُضعت عينان زجاجيتان جديدتان بلونٍ رماديّ غامض…
كانتا تحدّقان إلى الشارع،
كأنهما تنتظران
… زائرًا آخر.
