د.نادي شلقامي
في زمن تتسارع فيه المتغيرات، وتختلط فيه المفاهيم، وتغيب فيه الحدود بين الحرية والفوضى، تقف مجتمعاتنا العربية والإسلامية أمام مفترق طرق خطير. فبين تراجع منظومة القيم، وانتشار السلوكيات الدخيلة، وتآكل الروابط الاجتماعية، يعلو سؤال لا يمكن تجاهله: هل فقدنا بوصلتنا الأخلاقية؟
إن ما نشهده اليوم من مظاهر التفكك والعنف اللفظي والتنمّر وغياب الاحترام، لم يكن يومًا جزءًا من طبيعة مجتمعاتنا، بل هو نتاج ابتعاد تدريجي عن عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة، وعن مبادئ الإسلام السمحة التي شكّلت عبر عقود طويلة حصنًا أخلاقيًا متينًا.
أولًا: عادات وتقاليد صنعت مجتمعًا متماسكًا
نشأت أجيال متعاقبة في مجتمعاتنا على منظومة راسخة من العادات والتقاليد، لم تكن مجرد طقوس اجتماعية، بل كانت قواعد حياة تضبط السلوك وتحفظ التوازن المجتمعي.
1- كان احترام الكبير قيمة لا نقاش فيها؛ الكبير يُقدَّر، ويُوقَّر، ويُستمع إلى حكمته، في البيت والعمل والشارع. ولم يكن رفع الصوت أو التقليل من شأنه مقبولًا تحت أي مبرر.
2- أما صلة الرحم فكانت واجبًا أخلاقيًا قبل أن تكون فريضة دينية؛ الزيارات منتظمة، والسؤال دائم، والمشاركة في الأفراح والأحزان واجب لا يُتنازل عنه. وكانت الأسرة الممتدة هي خط الدفاع الأول ضد التفكك والانحراف.
3- وفي حسن الجوار تجلّت أسمى صور التكاتف؛ الجار يُطمأن عليه، ويُغاث عند الحاجة، ويُحفظ عرضه وبيته، حتى قيل إن الجار كان أقرب من القريب.
4- كما شكّل الحياء ركيزة أساسية في السلوك العام؛ حياء في القول، وحياء في الفعل، وحياء في التعامل، فكان ضابطًا أخلاقيًا يمنع الانفلات دون حاجة إلى رقابة أو قانون.
5- ولم تغب الشهامة والمروءة والنخوة عن المشهد؛ نصرة المظلوم، ومساعدة المحتاج، والوقوف بجانب الضعيف كانت من علامات الرجولة والإنسانية.
ثانيًا: مبادئ الإسلام السمحة… أساس البناء الأخلاقي
لم تكن هذه العادات منفصلة عن الدين، بل كانت انعكاسًا حيًا لمبادئ الإسلام الذي جاء ليبني الإنسان أخلاقيًا قبل أي شيء آخر.
1- فـالرحمة كانت جوهر التعامل، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين﴾،
رحمة في التربية، ورحمة في الخلاف، ورحمة حتى في العقاب.
2- والعدل كان قيمة عليا لا تُجزأ؛ عدل في الحكم، وعدل في الكلمة، وعدل في المعاملة، لا يفرّق بين غني وفقير أو قوي وضعيف.
3- أما الصدق والأمانة فكانا عنوان الثقة في المجتمع؛ الكلمة عهد، والاتفاق التزام، والخيانة عار اجتماعي قبل أن تكون إثمًا دينيًا.
4- وجاء التسامح وقبول الآخر ليؤكد أن الاختلاف لا يعني العداء، وأن الحوار هو السبيل لا الإساءة، وأن كرامة الإنسان مصونة مهما اختلف الرأي.
5- كما رسّخ الإسلام مبدأ الإحسان في كل شيء؛ إتقان العمل، ولين القول، وحسن المعاملة، باعتبارها عبادة وسلوكًا يوميًا.
ثالثًا: كيف نَفذت هذه القيم إلى عمق المجتمع؟
لأنها لم تُفرض بالقوة، ولم تُرفع كشعارات، بل:
1- نُقلت بالتربية والممارسة
2- تجسدت في سلوك الآباء والأمهات
3- دعمتها الأعراف الاجتماعية والتعاليم الدينية معًا
4- أصبحت ضميرًا حيًا يحكم السلوك دون رقابة.
فغدت القيم جزءًا من الهوية، لا استثناءً طارئًا.
وختاما…إن ما نعيشه اليوم من اضطراب أخلاقي ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة ابتعاد عن الجذور. والعودة إلى عاداتنا وتقاليدنا ومبادئ الإسلام السمحة ليست دعوة للرجوع إلى الوراء، بل مشروع إنقاذ أخلاقي وحضاري يعيد للمجتمع توازنه، وللإنسان إنسانيته.
فالأمم لا تنهض بالقوانين وحدها، ولا تستقر بالتقدم المادي فقط، بل تقوم على القيم التي تحكم سلوك أبنائها.
وإذا أردنا مستقبلًا أكثر أمنًا واستقرارًا، فلا مفر من الاستجابة لهذه الصرخة… صرخة القيم في زمن الفوضى الأخلاقية.
