د.نادي شلقامي
يُعد المجمع العلمي المصري أحد أعرق الصروح العلمية في تاريخ مصر الحديث، وشاهدًا حيًا على تطور المعرفة والبحث العلمي منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى اليوم. فمنذ تأسيسه عام 1798، ارتبط اسمه بمراحل تاريخية مفصلية، وأسهم في توثيق العلوم والآداب والطبيعة المصرية، واحتضن نخبة من كبار العلماء المصريين والأجانب.
وتأتي ذكرى وفاة العالم المصري الكبير الدكتور محمود حافظ، أول رئيس مصري للمجمع العلمي، لتعيد تسليط الضوء على هذا الكيان العلمي العريق، وعلى دوره الوطني والعلمي، وعلى إسهامات رئيسه الراحل الذي مثّل حلقة وصل بين التراث العلمي العميق ومتطلبات العصر الحديث.
أولًا…نشأة المجمع العلمي وبداياته التاريخية
— تأسس المجمع العلمي المصري في 20 أغسطس عام 1798 بقرار من القائد الفرنسي نابليون بونابرت، بالتزامن مع الحملة الفرنسية على مصر، تحت اسم المعهد العلمي بمصر. وجاء إنشاؤه على غرار المعهد الفرنسي، ليكون مؤسسة علمية تُعنى بدراسة مصر من مختلف الجوانب العلمية والطبيعية والإنسانية.
— وضم المجمع عند تأسيسه مجموعة من العلماء الفرنسيين في مجالات الرياضيات، والهندسة، والطب، والتاريخ الطبيعي، وأسهم في إنتاج واحدة من أهم الموسوعات العلمية في التاريخ، وهي كتاب “وصف مصر”، الذي وثّق بدقة ملامح الحياة المصرية جغرافيًا واجتماعيًا وثقافيًا في نهاية القرن الثامن عشر.
ثانيًا… تطور المجمع العلمي عبر العصور
–بعد خروج الحملة الفرنسية عام 1801، مرّ المجمع بفترة من التوقف، قبل أن يُعاد إحياؤه في منتصف القرن التاسع عشر، وينتقل مقره بين الإسكندرية والقاهرة، إلى أن استقر في القاهرة عام 1880.
–ومع بدايات القرن العشرين، شهد المجمع تحولًا نوعيًا، حيث توسعت عضويته لتضم علماء مصريين بارزين، وتعددت تخصصاته لتشمل:
1- العلوم الطبيعية والرياضية
2- الطب والزراعة
3- الآداب والعلوم الإنسانية
4- التاريخ والآثار
5- العلوم الاجتماعية والفلسفية
— وأصبح المجمع منصة وطنية للبحث العلمي، وعقد المؤتمرات، وإصدار الدوريات العلمية، وحفظ التراث المعرفي.
ثالثًا… مكتبة المجمع ودوره الثقافي
— امتلك المجمع العلمي واحدة من أغنى المكتبات العلمية في المنطقة، حيث ضمت مئات الآلاف من الكتب والمخطوطات النادرة، من بينها طبعات أصلية من “وصف مصر”، ومراجع علمية لا تُقدّر بثمن.
— كما لعب المجمع دورًا ثقافيًا بارزًا من خلال:
1- عقد الندوات والمحاضرات العلمية
2- نشر البحوث والدراسات المحكمة
3- دعم التواصل بين العلماء المصريين ونظرائهم عالميًا
رابعًا.. حريق المجمع عام 2011… جرح في الذاكرة الوطنية
— في 17 ديسمبر 2011، تعرض المجمع العلمي لحريق مأساوي أدى إلى تدمير جزء كبير من مقتنياته ومكتبته، في واحدة من أسوأ الكوارث الثقافية التي شهدتها مصر الحديثة. ومثّل هذا الحدث صدمة عميقة للأوساط العلمية والثقافية، لما حمله من خسارة فادحة لتراث إنساني نادر.
— ورغم حجم الخسائر، بدأت لاحقًا جهود وطنية لترميم المبنى واستعادة ما أمكن من محتوياته، تأكيدًا على مكانة المجمع كرمز علمي لا غنى عنه.
خامسًا… محمود حافظ… أول رئيس مصري للمجمع العلمي
–يُعد الدكتور محمود حافظ (1912 – 2011) أحد أبرز العلماء المصريين في القرن العشرين، ورائد علم الحشرات في مصر. وقد شكّل توليه رئاسة المجمع العلمي المصري عام 2005 محطة تاريخية، كونه أول مصري يتولى هذا المنصب منذ تأسيس المجمع.
— وخلال مسيرته:
1-كان عضوًا فاعلًا بالمجمع منذ السبعينيات
2-شغل منصب نائب الرئيس قبل أن يصبح رئيسًا
3-جمع بين رئاسة المجمع العلمي ورئاسة مجمع اللغة العربية بالقاهرة
— ومثّل محمود حافظ نموذجًا للعالم الموسوعي الذي جمع بين التخصص العلمي الدقيق والرؤية الثقافية الواسعة، وظل حتى وفاته مدافعًا عن دور العلم في نهضة المجتمع.
وختاما…فإن الحديث عن المجمع العلمي المصري هو حديث عن ذاكرة مصر العلمية الممتدة لأكثر من قرنين، وعن صرحٍ صاغ ملامح المعرفة الحديثة في البلاد، واحتضن عقولًا أسهمت في بناء الوعي العلمي والثقافي.
وتأتي ذكرى وفاة العالم الجليل محمود حافظ لتؤكد أن المجمع لم يكن مجرد مبنى أو مؤسسة، بل كان – ولا يزال – رسالة علمية متجددة، يحملها رجال آمنوا بأن العلم هو أساس التقدم، وحافظوا على شعلة المعرفة رغم ما مرّ بها من تحديات.
ويبقى المجمع العلمي المصري شاهدًا على تاريخ طويل من العطاء، وجسرًا يربط الماضي بالحاضر، ويؤكد أن الأمم الحية لا تفقد ذاكرتها العلمية مهما اشتدت المحن.
