نجده محمد رضا
في صفحات التاريخ الإسلامي، تتلألأ أسماء نساء خالدات قدّمن أروع الأمثلة في الصبر والإيمان والتضحية، ومن بينهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، تلك السيدة القرشية الشجاعة التي كسرت قيود الجاهلية وهاجرت وحدها من مكة إلى المدينة رغم المخاطر، لتثبت أن الإيمان لا يعرف خوفاً ولا ينهزم أمام القيود.
نسبها ومكانتها
هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية، أخت الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه من الأم، وأخت الوليد بن عقبة من الأب.
نشأت في بيت من بيوت قريش العريقة، لكنها اختارت طريق الحق في زمن كان الإسلام فيه غريباً بين قومها.
كانت من أوائل النساء اللواتي دخلن الإسلام في مكة، رغم أن أباها عقبة بن أبي معيط كان من أشد أعداء الإسلام ورسول الله ﷺ، حتى أنه شارك في أذى النبي في بدايات الدعوة.
ومع ذلك، لم يمنعها نسبها ولا بيئتها من الإيمان الصادق بالله وبرسوله.
هجرة امرأة مؤمنة وحدها
بعد صلح الحديبية الذي نصّ على إعادة من يُهاجر من مكة إلى المدينة من الرجال إلى قريش، هاجرت أم كلثوم بعده مباشرة، فكانت أول امرأة تصل إلى المدينة مهاجرة بعد الصلح.
وعندما طالبت قريش رسول الله ﷺ بإرجاعها، رفض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لأن الصلح كان خاصاً بالرجال فكانت هجرتها سبباً في نزول قوله الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}
(سورة الممتحنة: آية 10)
وبذلك أصبحت أم كلثوم سبباً في تشريع قرآني عظيم يتعلق بحماية النساء المؤمنات من الاضطهاد.
إيمانها وثباتها
عرفت أم كلثوم بصبرها وثباتها على الحق رغم التحديات القاسية التي واجهتها. تركت بيتها وأهلها وواجهت الصحراء وحيدة في سبيل الله، فكانت مثالاً نادراً في التضحية والعقيدة الراسخة.
لم تُغْرِها مكانة أهلها ولا نخوة قريش، بل آثرت الهجرة لنصرة الدين والعيش في ظل رسول الله ﷺ.
زواجها وحياتها في المدينة
بعد هجرتها، تزوجت من زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى رسول الله ﷺ، وبعد استشهاده في غزوة مؤتة، تزوجت من الزبير بن العوام ثم من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وكان لكل منهم مكانة عظيمة في الإسلام.
عاشت أم كلثوم حياتها في المدينة المنوّرة بين الصحابة والنساء المؤمنات، وكانت معروفة بالخير والورع والعقل الراجح.
وفاتها
تُوفيت رضي الله عنها في زمن الخليفة عثمان بن عفان أخيها من الأم، ودفنت في البقيع بين الصحابيات الجليلات، تاركةً سيرة طيبة يتناقلها التاريخ كمثال للمرأة المسلمة القوية المؤمنة التي اختارت الله ورسوله على الدنيا وما فيها.
تبقى أم كلثوم بنت عقبة نموذجاً خالداً للمرأة التي واجهت التحدي بالإيمان، وكسرت قيود المجتمع الجاهلي لتكتب اسمها في سجل الخالدات.
قصتها ليست مجرد هجرة، بل رسالة متجددة بأن الإيمان الصادق أقوى من الخوف، وأن طريق الحق لا يُعبد إلا بالتضحية والثبات.
